مشروعات الخديوي إسماعيل في عيون القنصل الأمريكي "إدون دي ليون"
ارتبط اسم الخديو إسماعيل خامس حكام مصر من الأسرة العلوية بعدد كبير من الإنجازات التي حققها على عدة مستويات، سواء في العمران أو مشاريع توسيع الرقعة الزراعية وإلغاء الرق، وغير ذلك من المشروعات الضخمة التي حققها.
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل
ومن أبرز ما حققه الخديو إسماعيل خلال توليه حكم مصر، الطفرة التي شهدتها حركة العمران والبناء ومازالت القاهرة الخديوية شاهدة عليها، لتثبت ما وضعه الخديو إسماعيل أمام ناظريه عندما كان يحلم بمصر كقطعة من أوروبا.
وفي شهادة القنصل الأميريكي “إدون دي ليون”، والتي قدمها إلي فؤاد الأول ملك مصر ونجل الخديو إسماعيل، وأثبتها المؤرخ إلياس الأيوبي في كتابه، “تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا”، يرصد الحالة المصرية قبل وبعد تولي إسماعيل الحكم.
يقول “دي ليون”: بعد تولي الخديو إسماعيل العرش 16 سنة ونصف أصبحت لمصر حكومة منسقة تنسيق الأنظمة المتبعة في أرقي البلدان الأوروبية، من حيث نظامها النيابي والإداري والسياسي.
وزادت مساحة أرضها المزروعة نيفا وألف ألف فدان، وتقدم فيها الري تقدما عظيما: فشقت الترع التي لا يحصر عددها ولا تجحد فوائدها، نذكر منها ترعتي الإبراهيمية والإسماعيلية، وشيدت القناطر العديدة، وأقيم من الكباري نحو 400 علي النهر الأعظم وفروعه: منها كوبر قصر النيل الفخيم، وكوبري الإنجليز، وأنشأت الطرق الزراعية المترامية الأطراف في أنحاء البلاد، ومدت السكك الحديدية، والأسلاك البرقية علي أبدع وضع حتي بلغت ديار السودان، وأنشأت المواصلات البريدية، وأصلح توزيع الضرائب علي أرباب الأطيان، وأنشأت شركة الملاحة وغيرها من الشركات المساهمة، وأصبحت موانئ الإسكندرية وبورسعيد والسويس، وهي أهم ثغور القطر، تضارع أحسن موانئ السواحل الأوروبية والبحر الأبيض المتوسط عملا وحركة، كما نصبت المنارات الجميلة علي طول الشاطئ المصري حتي سواحل المحيط الهندي.
ويمضي “دي لوين” في حديثه حول إنجازات الخديو إسماعيل: أما الفنون والمهن والحرف علي تباينها، والصناعات علي اختلاف أنواعها، فقد انتعشت انتعاشا عظيما، ونشطت المشروعات العامة نشاطا جديدا، وظهرت مدن القطر بمظهر غير مظهرها الأول، وعلي الأخص مدينتا القاهرة والإسكندرية بعد أن رصفت طرقها وأضيئت بمصابيح الغاز ووزعت بهما المياه بطريقة محكمة، وأوجد فيها نظام خاص للكنس والرش، وقد غرست فيها الحدائق الغناء، وأنشأت الميادين والمتنزهات الفسيحة الجميلة علي طراز حدائق باريس ومتنزهاتها وازداد بناؤها بالمباني الفخمة، مثل بناء الأوبرا ودور التمثيل الأخرى، ما أحدث فيها من الأحياء الجديدة علي النسق الأوروبي، وما شيد من القصور والمساجد التي تضاهي أبدع ما أنتج فن البناء في عهد المماليك.
وقد زاد عمار البلاد في هذه الفترة وبنيت عدة مدن جديدة، أهمها الإسماعيلية وحلوان، واتخذت فذ هذا العهد جميع الوسائل اللازمة لحفظ الصحة العامة في القطر: فأعيد تنظيم الإدارة الخاصة بها، وأصبحت البلاد ــ على قدر المستطاع ــ في مأمن من غوائل الأوبئة، وقد نفخت في التجارة روح جد زادت بها الواردات وضوعفت الصادرات حتى بلغت أربعة أضعاف ما كانت عليه من قبل، وألغي الالتزام الخاص بالجمارك، ونظمت إدارتها أحسن تنظيم.
ويتابع القنصل الأمريكي “دي ليون” رصده لمنجزات الخديو إسماعيل: أما التعليم فحدث ولا حرج، لأنه دفع إلي الأمام دفعة كان من شأنها أن أنشأت المدارس علي اختلاف أنواعها في جميع الأنحاء: منها مدارس الفتيان، ومدارس العميان، ومدارس الخادمات التي انفردت مصر دون الشرق كله بإيجادها، وزودت المدارس الخاصة والأجنبية بالتشجيع، ورتبت لها الإعانات، ونفحت من الهبات الجميلة الشيء الكثير، وظلت البعثات المدرسية للبلدان الخارجية تتوالي ويتسع نطاقها، وصارت العربية لغة رسمية في مصالح الحكومة والمدارس الأميرية بدل اللغة التركية.
ويشدد “دي ليون” علي: كل هذا أدي إلى اتساع دائرة المعارف والعلوم والآداب الاجتماعية: فنبغ في مصر فطاحل الكتاب، والأطباء، ورجال الصحافة، والمفكرون الحكماء ذوو الرأي الصائب والفكر السديد، وأنشأت مدرسة العلوم المصرية القديمة، ودار الآثار العربية، ودار الكتب الخديوية الفخمة، فأصبحت كأنها حلقة وصلت مصر الفراعنة بمصر القرون الوسطي بمصر الحديثة.
كما امتاز عهد الخديو إسماعيل بالتطور الاجتماعي السريع الذي نهض بعقلية القطر المصري، فارتقت العوائد وأنماط الحياة المنزلية والعمومية، ونظمت إدارة الحفظ والأمن على أسس جديدة، وانفصلت السلطات بعضها على البعض، فأصبحت السلطة التنفيذية مستقلة عن السلطة القضائية وحق لـ الخديو إسماعيل أن يفخر بما فعل قائلا: “انفصلت بلادي عن إفريقيا لأننا أصبحنا جزءا من أوروبا”.
وفي عهد الخديو إسماعيل، تخلصت مصر مما ترتب على امتياز قناة السويس من المساس بحقوق سيادتها، وتعاقبت الفرمانات التي نالتها بما بذلته من نفائس ثروتها مؤذنة برفع القيود التي كانت مصر راضخة لها بحكم التبعية للدولة العثمانية، فتفككت هذه القيود واحدا بعد واحد، واتخذ إسماعيل لقب “الخديو” بدلا من والي.
وبينما كان العمل سائرا بجد ونشاط في إنجاز العجائب، كان الفت سائرا للقضاء على الرق والنخاسة، وخضع السودان بأكمله لسيطرة مصر التي امتدت إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر والمحيط الهندي حتى بلغت رأس جارادافوي، فأصبحت مصر إمبراطورية عظيمة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شكلت البعثات العلمية التي تجاوز عددها الثلاثين بعثة لاستقصاء الجهات المجهولة في أواسط أفريقيا وشرقها، سعيا وراء خدمة العلم والمعارف، ورفع شأن القطر المصري، فأنشأت الجمعية الجغرافية الخديوية، وسارع أقطاب العلماء في الانخراط في سلكها.