مدينة الأنقاض.. 50 يومًا على صمود تاريخى أمام الاحتلال فى غزة (ملف)
لم تعد غزة تشبه نفسها بعد 50 يومًا من الحرب الإسرائيلية العنيفة والمدمرة، التي طالت كل شبر من أرضها وسمائها، فقد تحولت المدينة الحيوية والمزدهرة إلى مدينة الأنقاض والخراب، التي تناثرت فيها الحجارة والحديد والزجاج والدماء، وانهارت فيها المباني والمنشآت، وأصبح المشهد العام بالداخل عبارة عن كومات من الردم والرماد.
غزة.. مدينة العِزة والجراح
تحمل غزة في صدرها الجراح والآلام، بعد 50 يومًا قاسية وقاتلة، عاشت فيها المدينة في حالة من الرعب والفزع، التي اجتاحت فيها الصواريخ والقنابل والدبابات والطائرات كل زاوية من زواياها، وسقط فيها الضحايا والشهداء من كل فئة وعمر وجنس، وتناثرت فيها الأجساد والأطراف والأعضاء.
لم تفقد غزة عزتها وكرامتها بعد 50 يومًا من الحرب الإسرائيلية الظالمة والمغرورة، التي فشلت في كسر إرادتها وهويتها، حين أظهرت المقاومة الفلسطينية بسالة وشجاعة في وجه الاحتلال، واستهدفت قوات العدو من "المسافة صفر".
بداية محسومة
في السابع من أكتوبر الماضي، شنت حركة حماس هجومًا مفاجئًا على إسرائيل، بإطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وتسلل مئات المقاتلين إلى الأراضي الإسرائيلية، وأسروا عددًا من الجنود والمدنيين، وكانت هذه العملية، التي أطلقت عليها حماس اسم "طوفان الأقصى"، ردًا على الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى بالقدس، والقرارات العدائية ضد الفلسطينيين، والحصار المفروض على غزة منذ سنوات، وأثارت هذه العملية ردود أفعال دولية متباينة، بين مؤيد ومعارض للحركة الفلسطينية.
منذ ذلك اليوم، والحرب مستمرة بين الطرفين، كما تسببت في خسائر بشرية ومادية فادحة، وتدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والصحية في قطاع غزة، وتأزم الأمن والاستقرار في إسرائيل والمنطقة. وقبل اليوم الـ50 من الحرب، تم الاتفاق بين طرفي الصراع على هدنة مؤقتة لمدة 4 أيام قابلة للتجديد، يتم خلالها تبادل 50 رهينة محتجزين في غزة بـ150 معتقلًا فلسطينيًا داخل سجون الاحتلال.
شهدت الحرب مجازر وجرائم مروعة، من بينها مجزرة مستشفى المعمداني في غزة، التي قتل فيها 120 شخصًا، بينهم 40 طبيبًا، بعد أن قصفتهم طائرات إسرائيلية بصواريخ موجهة، في 15 أكتوبر 2023، وأثارت هذه المجزرة استنكارًا واسعًا في العالم، ودعوات إلى محاسبة المسئولين عنها، كما أدانت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية وإنسانية هذا العمل الوحشي، ووصفته بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
لكن ذلك لم يكن الانتهاك الوحيد الذي ارتكبه الاحتلال، فالحرب لم تقتصر على خسائر بشرية فقط، بل تسببت أيضًا في دمار هائل للبنية التحتية والمنشآت المدنية والعسكرية في قطاع غزة، وقدرت الأمم المتحدة أن نحو 80% من المباني في غزة تضررت أو دُمرت جراء القصف الإسرائيلي، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والمساجد والمنازل والمصانع والمزارع.
ونزح أكثر من 1.5 مليون فلسطيني داخل القطاع، واضطروا إلى اللجوء إلى الملاجئ أو البقاء تحت الأنقاض، كما تعرضت شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحي لأضرار بالغة؛ ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي والمياه النظيفة والإنترنت عن معظم سكان القطاع، فضلًا عن استخدام جيش الاحتلال في الحرب ضد المدنيين أسلحة محرمة دوليًا.
50 يومًا بـ"رائحة الدم"
داخل مستشفى عين شمس الأردني بالقاهرة، ينظر عودة القباني، جريح فلسطيني من مخيم البريج، إلى السقف الأبيض، ويحاول أن ينسى الألم الذي يعتصر أعضاء جسده المجروحة من شظايا صواريخ القصف الإسرائيلي، كما يشعر بالحنين إلى أهله وبلده، ويتساءل عن مصيرهم.
في جانبه، يقف شقيقه داود القباني، الذي لا يترك ظل أخيه أبدًا، ويروي قصته لـ"الدستور"، قائلًا: "لم أكن أتوقع أن أرى أخي في هذا الحال، مضرجًا بالدماء وملقى على الأرض، بعد أن انفجر صاروخ إسرائيلي قرب بيتنا في مخيم البريج".
ويواصل: "كان يمر من هناك بالصدفة، ليست له علاقة بالمقاومة أو السياسة، فقط شاب فلسطيني يحلم بحياة أفضل، لكن العدو لا يميز، يقصف كل شيء يتحرك، ويدمر كل شيء يقف".
"لحسن الحظ، نجا أخي من الموت، لكنه أصيب بجروح خطيرة في الرأس والصدر والظهر، وبقيت شظايا الصاروخ في جسده لأسابيع"، يستطرد "داود".
لم تكن مستشفيات غزة قادرة على علاجه بشكل كافٍ، فكانت تفتقر إلى الأدوية والمعدات والكهرباء، لذلك، تقدمت بطلب لنقله إلى مصر للعلاج، فقد كانت هناك مبادرة إنسانية من الحكومة المصرية لاستقبال بعض الجرحى الفلسطينيين وعلاجهم في مستشفياتها. عودة كان من بين المحظوظين الذين حصلوا على هذه الفرصة، ولكنه كان أيضًا من بين المنكوبين الذين فقدوا كل شيء في بلدهم.
ويواصل شقيق "عودة": "رافقت أخي في رحلة طويلة ومتعبة، من غزة إلى العريش، ثم من العريش إلى القاهرة، حيث مكثنا في مستشفى عين شمس الأردني، وفي مصر، شعرنا بالترحيب والاحترام من قبل الشعب المصري، الذي أظهر تضامنه مع الفلسطينيين في محنتهم".
ويتابع: "أما أخي عودة، فقد بدأ يتحسن تدريجيًا، بفضل الله ثم بفضل العناية الطبية الجيدة التي تلقاها في مصر، وتمت إزالة الشظايا من جسده، وتضميد جراحه، وإعطاؤه العلاج المناسب، ولكنه لا يزال في حالة حرجة، أراه يبتسم أحيانًا، ويتذكر أيامنا السعيدة في غزة، قبل الحرب والقصف والحصار".
بينما يتعافى "عودة" في مصر، ينزف قلب "داود" لما يحدث في فلسطين، فهو يشاهد على التلفاز وعلى الإنترنت صور الدمار والموت والبكاء، يبكي على الأطفال والنساء والشيوخ الذين يُقتلون بلا رحمة، يرى المنازل والمستشفيات تُهدم بلا رحمة، يتابع صمود الشعب الفلسطيني الذي يقاوم بلا خوف، ويستنكر رد فعل العالم الذي يشاهد ويتغاضى بلا عدل.
مستشفيات بلا مرضى
تعاني غزة منذ أول أيام الحرب من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات والمعدات الطبية؛ بسبب القصف الإسرائيلي للمستشفيات والمراكز الصحية، والحدود المغلقة التي تمنع دخول المساعدات، وكانت حذرت منظمة الصحة العالمية من أن نحو 90% من مياه الشرب في القطاع غير صالحة للاستهلاك البشري، وأن نحو 70% من السكان يعانون من سوء التغذية، وأن نحو 50% من الأطفال يعانون من فقر الدم والتقزم.
وفي حديثه لـ"الدستور"، يؤكد محمد أبومصبح، المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة، أن هذا النقص في المستلزمات الطبية أدى إلى تفاقم حالات الإصابة بالأمراض المزمنة والمعدية والنفسية، وزيادة معدلات الوفاة والعجز والإعاقة، فضلًا عن الحالات الحرجة التي تم قصفها بشكل مباشر.
يقول أبومصبح، إن الاحتلال لم يكتف بقصف وتدمير المستشفيات والمراكز الصحية فقط، بل هدد جميعها بإخلاء المرضى والنازحين قبل تدميرهم؛ ما جعل العديد من الجرحى يغادرونها وينتقلون إلى أماكن أكثر بعدًا عن القصف الإسرائيلي.
"لا يوجد ضمان لحمايتنا داخل المستشفيات أو الطرقات بشكل عام، يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك فورًا ويحقق في الجرائم الإنسانية التي ارتكبها الاحتلال بحقنا"، يناشد "أبومصبح" العالم في حديثه.
موت بدون عشاء
يواجه القطاع أيضًا أزمة غذائية خانقة؛ بسبب القصف الإسرائيلي للمزارع والأسواق والمخازن الغذائية، والحدود المغلقة التي تمنع دخول المواد الغذائية والوقود والأسمدة؛ ما أدى إلى انخفاض مستوى الإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي، واختفاء السلع الغذائية، وانتشار الجوع والفقر بين السكان.
وأشارت منظمة الأغذية والزراعة إلى أن نحو 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الغذائية الدولية، وأن نحو 60% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 40% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
استقبل "محرر الدستور" في الأيام القليلة الماضية، بريدًا إلكترونيًا من خلود بدوي، مسئولة حملات إقليمية معنية بإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة في منظمة العفو الدولية، تبلغنا من خلاله بشهادات مؤلمة لأشخاص دُمرت عائلاتهم بالكامل، في التصعيد العنيف بين إسرائيل وحماس. فمن نجا منهم من قصف الاحتلال، لم يحالفه الحظ في النجاة من الموت جوعًا وعطشًا.
تقول "بدوي"، إن عدد القتلى والمصابين في غزة لم يسبق له مثيل، وأن حياة ملايين الأشخاص تمزقت وانقلبت رأسًا على عقب، فالقصف الإسرائيلي المستمر يستهدف المدنيين بشكل عشوائي وغير قانوني، كما أن أكثر من ثلث الضحايا هم أطفال، ولا يزالون العديد من الجرحى عالقين تحت الأنقاض.
وتنوّه إلى أن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة يحرم السكان من دخول الاحتياجات الأساسية مثل المياه والطعام والوقود، ويزيد من الكارثة الإنسانية في القطاع، تاركًا أكثر من مليوني شخص يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة.
في يومي 19 و20 أكتوبر الماضيين، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرتين داخل مبنى كنيسة لجأ إليه مئات المدنيين النازحين، ومنزل في مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، ووثقت منظمة العفو الدولية، في إطار تحقيقاتها المتواصلة بشأن انتهاكات قوانين الحرب، هاتين الحالتين، واللاتي يمكن اعتبارهما نموذجًا للممارسات الإسرائيلية في غزة.
وتبين أن الغارات الإسرائيلية قتلت فيهما 46 مدنيًا، من بينهم 20 طفلًا، وكانت أكبر الضحايا سنًا امرأة عمرها 80 عامًا فيما لم يتجاوز عمر أصغر الضحايا ثلاثة أشهر، وقد خلُصت المنظمة إلى أن هاتين الغارتين إمّا لم تفرقا بين المقاتلين والمدنيين أو مثّلتا هجماتٍ مباشرة على أعيان مدنية، وفي الحالتين يجب التحقيق فيهما باعتبارهما جريمتي حرب.
تطالب مسئولة الحملات الإقليمية بمنظمة العفو الدولية، بوقف نهائي لإطلاق النار من أجل إيقاف الهجمات غير القانونية وإدخال المساعدات المنقذة للحياة والمياه والإمدادات الطبية إلى غزة، وتمكين المستشفيات من تلقي الأدوية والوقود والمعدات الضرورية، ودعت أيضًا إلى إطلاق سراح الرهائن المحتجزين وإجراء تحقيقات دولية مستقلة في جرائم الحرب التي ارتكبها جميع الأطراف، ووضع حد للإفلات من العقاب.
وتختتم "بدوي" بالقول: "إن معالجة الأسباب الجذرية لهذا الصراع، من خلال تفكيك نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري) الإسرائيلي المفروض على الفلسطينيين، أصبحت الآن أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، إنها مسألة إنسانية لا سياسية".
استغاثة ممنوعة
في ظل الحرب الدائرة، يعاني قطاع الاتصالات والتكنولوجيا في غزة من أزمات متعددة، تتعلق بالبنية التحتية والخدمات والتنمية والأمن، وقد تفاقمت هذه الأزمات بسبب الحرب الإسرائيلية على القطاع، والانقطاع المستمر للكهرباء والوقود؛ ما حرم المواطنين من حقهم في الاتصال أو الاستغاثة بالنجدة والطوارئ.
يوضح هذه الأزمة تفصيليًا، الدكتور مشهور أبودقة، وزير الاتصالات الفلسطيني الأسبق، في حديث خاص لـ"الدستور"، مشيرًا في البداية إلى البنية التحتية للاتصالات والتكنولوجيا في غزة، والتي تعرضت للتدمير والتضرر بشكل كبير؛ جراء القصف الإسرائيلي للمحطات والأبراج والكابلات والمراكز الفنية والمكاتب التابعة لشركات الاتصالات والإنترنت.
ويؤكد "أبودقة" أن هذا التدمير أدى إلى انقطاع أو تشويش الخدمات الهاتفية والإنترنت عن معظم مناطق القطاع، وتراجع جودة وسرعة الاتصال، وزيادة التكاليف والرسوم على المستخدمين، وقد بذلت الشركات والوزارة جهودًا كبيرة لإصلاح الأعطال وإعادة الخدمة، رغم الصعوبات والمخاطر التي تواجهها.
ويضيف: "تواجه خدمات الاتصالات والتكنولوجيا في غزة أزمة نقص في الوقود والمولدات الكهربائية، اللازمة لتشغيل الشبكة والمحطات والمراكز، في ظل انقطاع التيار الكهربائي منذ اليوم الأول للحرب، وأدى هذا النقص إلى توقف الخدمة بالكامل في بعض الأحيان، أو تقليل ساعات التشغيل في أحسن الأحوال، ما ساهم في تعميق الكارثة الإنسانية، لعدم قدرة المواطنين على التواصل مع خدمات الطوارئ والإغاثة والنجدة".
يتحدث الوزير الفلسطيني الأسبق، عن معاناة التنمية في مجال الاتصالات والتكنولوجيا في غزة من أزمة تخلف وتهميش وحصار؛ بسبب القيود والعراقيل التي تفرضها إسرائيل على دخول المعدات والمواد والخبرات والمشاريع اللازمة لتطوير القطاع، والتي أسفر عنها تراجع مستوى القطاع عن المعايير الدولية، وتفاقم الفجوة الرقمية بين غزة والعالم، وحرمان القطاع من الفرص والإمكانات التي توفرها الاتصالات والتكنولوجيا للتعليم والصحة والاقتصاد.
أما عن الأمن في مجال الاتصالات والتكنولوجيا في غزة، يؤكد "أبودقة" أنه يتعرض لأزمة تهديد وتجسس وتخريب؛ بسبب الهجمات والاختراقات التي تقوم بها إسرائيل على الشبكة والبيانات والمعلومات الخاصة بالمواطنين والمؤسسات والقطاعات الحيوية في القطاع، والتي أدت إلى انتهاك الخصوصية والحرية والسيادة، والتأثير على سير العمل والخدمات والمعاملات، والتسبب في الضرر والخسارة والفساد.
بيئة مفقودة
لم يسلم القطاع من الأزمة البيئية المتفاقمة جراء القصف الإسرائيلي للمناطق الزراعية والساحلية والصناعية، والحدود المغلقة التي تمنع دخول المواد البيئية والتنموية، والتي أسفرت عن تلوث الهواء والمياه والتربة بالغازات والمواد الكيميائية والمتفجرات، وتدمير النظم البيئية والتنوع الحيوي والموارد الطبيعية، وزيادة مخاطر الكوارث البيئية والصحية والاجتماعية.
وحذرت منظمة الصحة العالمية من أن نقص الوقود أدى إلى إغلاق محطات تحلية المياه، ما يجبر الناس على شرب المياه الملوثة، ويزيد من خطر انتشار العدوى البكتيري، كما تعطلت جميع أعمال جمع النفايات الصلبة، الأمر الذي هيأ بيئة مواتية للانتشار السريع وواسع النطاق، للحشرات والقوارض التي يمكن أن تنقل الأمراض.
ويفسر ذلك الدكتور محمد خضر الجابوري، رئيس الكيميائيين بوزارة البيئة العراقية، موضحًا أن الأراضي الفلسطينية تتعرض لقصف متواصل بأسلحة محرمة دوليًا، من بينها سلاح الفسفور الأبيض، الذي يلحق أضرارًا بالغة بالبيئة الطبيعية والإنسانية، ويحظر القانون الدولي الإنساني استخدام هذا السلاح؛ لأنه يسبب تلوثًا بالماء والتربة والهواء، ويحرق الأشجار والغابات، ويدمر النظام البيئي الطبيعي.
ويستطرد "الجابوري" في حديثه لـ"الدستور": "يؤدي استنشاق الدخان الناتج عن احتراق الفسفور الأبيض إلى التهاب الجهاز التنفسي والعيون والجلد، كما يسبب الوفاة، ويعتبر هذا السلاح من الأسلحة الكيميائية المضادة للأفراد، ويستخدم في عمليات التمويه وإخفاء تحركات الجنود على أرض المعركة، وفي إحداث حروق شديدة للأعداء".
"الفسفور الأبيض يعتبر عنصرًا كيميائيًا له استخدامات عسكرية وغير عسكرية، ولكنه يشكل خطرًا كبيرًا على البيئة والصحة العامة عند استخدامه في الحروب"، يشير "الجابوري" إلى تفاعل الفسفور بسرعة مع الأكسجين عند تعرضه للهواء، كما ينتج مواد كيميائية سامة وحرارة عالية، مسببًا الحرائق والدخان الأبيض الكثيف.
ويؤكد أن هذا السلاح ينتهك اتفاقيات جنيف الأربع وبالأخص المادتان (35 فقرة 3) و(55) من البروتوكول الإضافي الأول، اللتان تحظران استخدام أساليب ووسائل القتال التي تلحق بالبيئة الطبيعية أضرارًا بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد، وأيضًا البند 4/ب/2 من المادة 8 من النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، والتي تصنف هذه الأفعال ضمن جرائم الحرب التي يجب معاقبة المتسببين فيها.
وفي ختام الحديث، يسلط "الجابوري" الضوء على الاتفاقيات والأعراف الدولية الأخرى التي تنتهكها إسرائيل في حربها على غزة، حيث تنص على وجوب توفير الحماية للبيئة والموارد الطبيعية للشعوب الواقعة تحت السيطرة والاحتلال، وأهمها المبادئ 23 و24 من إعلان مؤتمر "ريو دي جانيرو" في العام 1992، واتفاقية منع استخدام تقنيات التغير البيئي في الحروب (انضمت إليها فلسطين في العام 2017)، والتي تمنع الاعتداء العسكري على البيئة.
الورقة الرابحة
وسط كل هذا الصراع الدموي، لم يوقف الحرب سوى صفقة واحدة كان الحديث دائرًا حولها طوال الفترة الماضية بشكل كامل، وهي ملف الأسرى الذي استغلته المقاومة الفلسطينية ضمن خطتها في عملية "طوفان الأقصى"، واتضح أنها الورقة الرابحة في معركتها أمام العدو، خاصة بعد أن يئس جيش الاحتلال ووافق على إتمام صفقة تبادل بين الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس والأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال.
من جانبه، يقول الدكتور منصور أبوكريم، الباحث في الشئون السياسية والعلاقات الدولية الفلسطينية، إن صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل كانت متعثرة منذ شهر تقريبًا، ولكنها تمت برعاية دولية وإقليمية، لتساعد الطرفين على كسب نقاط إيجابية في المعركة السياسية والإعلامية.
ويوضح: "حماس ستعتبرها نصرًا سياسيًا تحت النار، كما أن الصفقة ستهدي جانبًا من الضغط الشعبي الداخلي المتصاعد في إسرائيل، وستخفف من الضغط المتصاعد في الولايات المتحدة الأمريكية وداخل الحزب الديمقراطي تحديدًا".
"اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى المتبلور بين حماس وإسرائيل، يحقق للطرفين بعض المكاسب على المستوى التكتيكي، لكنه لن يغير في البعد الاستراتيجي للحرب، باختصار هو اتفاق يهدئ قليلًا من إيقاع الحرب ويعطي للطرفين فرصة لإعادة تنظيم الصفوف والتقاط الأنفاس، لكنه لن يشكل تحولًا استراتيجيًا في مسار المعركة حتى وقتنا الحالي"، يواصل "أبوكريم" حديثه.
ينوّه "أبوكريم" إلى أنه مع بداية الحرب كان يجب تشكيل حكومة طوارئ في غزة والضفة الغربية تحت وصاية منظمة التحرير الفلسطينية، لإدارة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، واستلام المساعدات وتقديم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية للمواطنين، لكن الاحتلال شكل حكومة حرب ونحن أبقينا على الانقسام، مما سهل على الجيش الإسرائيلي استهداف المنشآت الصحية والخدماتية تحت ذريعة أنها تابعة لحكومة حماس.
ويضيف: "عملية النزوح جنوب وادي غزة وإسكان الناس وتنظيم حياتهم والوضع الإنساني المتفاقم بشكل عام بات بحاجة ماسة إلى حكومة قادرة على تلبية احتياجات المواطنين في ظل هذا العدوان المتواصل، فإدارة الأزمة جزء أصيل من حلها أو تقليل مخاطرها".
وعن احتمالية عودة السلطة الفلسطينية لغزة، يوضح "أبوكريم" أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يدرك تمامًا أن هذه العودة سوف تكون مقدمة لإنجاز حل الدولتين، خاصة في ظل قناعة العالم أجمع والولايات المتحدة الأمريكية بضرورة العودة إلى مسار السلام والمفاوضات على أساس مبدأ حل الدولتين.
"سوف يراوغ نتنياهو ويعمل هو وكل من لا يريد حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه في دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 على تعطيل عودة السلطة إلى غزة ككيان سياسي شرعي ومعترف به، بل سوف يعمل على الاستثمار في الانقسام للهروب من استحقاقات التسوية، من خلال خلق كيانات معزولة ومتفرقة في غزة والضفة الغربية"، يقولها "أبوكريم".
ويختتم: "يدرك اليمين المتطرف الحاكم بزعامة حزب الليكود أن الفرصة باتت متوفرة لإحياء مسار التسوية، لذلك، يعمل على بقاء غزة خارج الشرعية الفلسطينية؛ لسهولة ضربها باستمرار والسيطرة عليها وحصارها تحت حجة الحفاظ على أمن غلاف غزة، وعدم السماح بوجود نظام معادِ فيها".
هدنة مكسورة
بعد ساعات معدودة من انعقاد الهدنة المؤقتة بين حماس وإسرائيل، حدث ما كان يتوقعه الجميع، فالاحتلال كسر الهدنة بشكل صارخ دون أي مراعاة للدول التي توسطت في إتمام هذه الصفقة، وتبين ذلك من خلال اقتحامه عددًا من المنازل في الضفة الغربية، كما أنه ما زال يمارس سياسة الاعتقالات الممنهجة والإعدامات الميدانية بحق الشعب الفلسطيني.
وبالتواصل مع المتحدث باسم هيئة شئون الأسرى والمحررين، ثائر شريتح، تقصينا من حقيقة مواصلة الاحتلال لحملات الاعتقال الممنهجة، واتضح أنه اعتقل 15 فلسطينيًا على الأقل في أول أيام الهدنة، الجمعة الماضية، كما أعدم الشاب محمد حناوي (22 عامًا) من مخيم عقبة جبر بأريحا، بعد إصابته بجروح خطيرة قبل اعتقاله.
ويؤكد شريتح، أن حصيلة الاعتقالات بعد السابع من أكتوبر المنصرم، بلغت أكثر من 3145 معتقلًا، وأن هذه الاعتقالات تشمل من جرى اعتقالهم من المنازل، وعبر الحواجز العسكرية، ومن اضطروا لتسليم أنفسهم تحت الضغط، ومن احتجزوا كرهائن.
وطالب المتحدث باسم هيئة شئون الأسرى، المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بالتدخل الفوري لوقف انتهاكات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، والضغط على إسرائيل للالتزام بالهدنة المؤقتة، والإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين.
وتأكيدًا على خرق جيش الاحتلال الهدنة المؤقتة، فقد أكدت الدكتورة مي الكيلة، وزيرة الصحة الفلسطينية، استشهاد الطبيب شامخ كمال أبوالرب (25 عامًا)، برصاص الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه على بلدة قباطية، صباح اليوم السبت.
آفاق مجهولة
بعد مرور 50 يومًا على أشرس معركة، لا تزال الآفاق المستقبلية للحرب بين إسرائيل وغزة تبدو غامضة ومعقدة؛ بسبب عدة عوامل تتمثل في موقف الطرفين من الحرب والسلام، ودرجة التماسك والتفاوض بينهما، وقد أظهرت الحرب أن كلا الطرفين لديه قدرة على الصمود والمقاومة، ولكن أيضًا على الاستعداد للتفاوض والتسوية، إذا ما توفرت الشروط المناسبة.
هناك عوامل خارجية تتمثل في موقف المجتمع الدولي من الحرب والسلام، ودرجة التدخل والتأثير فيها، والمصالح والقيم التي تحركه، وقد أظهرت الحرب أن المجتمع الدولي متباين في رؤيته وموقفه من الحرب، ومتفاوت في قدرته وإرادته للتدخل فيها، ومتناقض في مصالحه وقيمه التي يدافع عنها، كما أوضحت الحرب أيضًا أن المجتمع الدولي يواجه تحديات جسيمة في تحقيق الأمن والعدالة والاستقرار في المنطقة.
وفي ضوء هذه العوامل، يمكن القول إن الحرب بين إسرائيل وغزة لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات، سواء كانت الاستمرار أو الانتهاء، أو الانتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع أو الحل، ويتوقف مصير هذه الحرب على مدى قدرة الطرفين على مواصلة القتال وتحقيق الأهداف المرجوة منها، فضلًا عن مدى قدرة المجتمع الدولي على تحمل المسئولية والدور، والمساهمة في إيجاد حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية، حتى تعود مدينة الأنقاض إلى مجدها وعزها.
"جميع الصور التعبيرية المُستخدمة في الملف تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي"