فى محبة عبده جبير
الصديق الكبير عبده جبير الذى رحل عن عالمنا الأسبوع الماضى هو أحد أعمدة الحياة الثقافية فى مصر والوطن العربى، وأحد المحبين العظام للناس والكتابة، لا أذكر متى تعرفت عليه، ربما عن طريق بلدياتى محمد جاد الرب فى بركة السبع، ربما عن طريق الشيخ إمام عيسى الذى كنت اصطحبه كثيرًا إلى سهرات الأصدقاء، وربما عند أحمد فؤاد نجم فى الغورية أو عند عبدالرحمن الأبنودى فى الزمالك، أو عند نجيب شهاب الدين فى مصر القديمة، ربما مع الأستاذ سليمان فياض أو خليل كلفت أو محمد صالح ومحمود الوردانى وغيرهم، أو فى مقهى ريش أو المخزن أو زهرة البستان، كل ما أذكره أن هذا الصديق الحبيب موجود فى حياتى منذ بداياتى فى الحياة العامة، وكنت أحمل مفتاح شقته فى شارع جريدة السياسة بجوار دار الهلال، أذهب إليها فى أى وقت، وأنه حبيب كل من أحب، ولم يكن طرفًا فى صراع بين الأصدقاء، هو رجل العواطف الجياشة الذى يشعر بمسئولية تجاه الجميع، هو ينتمى لجيل السبعينيات فى الكتابة، ومع هذا بدأ النشر مع جيل الستينيات العفى، ولد عبده سنة ١٩٤٨ بمدينة إسنا لبيت كان يسمونه «بيت العلم»، حيث كان به أكبر عدد من الأزهرية والقضاة، وقد أرخ لهم الأدفوى وغيره، ووالده كان شيخ معهد دينى وأستاذًا لمولانا أحمد الطيب، شيخ الأزهر، لم يكن متحمسًا للدراسة فى الأزهر رغم التحاقه به، وبدأ فى قراءة كتب الأدب، فارتاب والده منه وعرف أنه لن يسلك الوجهة التى رسمها له، وهى أن يكون شيخًا أزهريًا، وحاول إثناءه عن القراءة فى الأدب والشعر، وبدأت الخلافات بينهما، وسمع أن عبدالرحمن الأبنودى وأمل دنقل هربا للقاهرة من أجل الشعر والكتابة، ونجحا هناك، فقرر أن يفعل مثلهما، فاشترى «شنطة» وفصّل «بدلة»، وكانت لوالده استراحة ريفية يؤجرها لشركة إيطالية، فرتب أموره على أول الشهر حين يقبض الإيجار كالعادة، حيث كان يرسله لأخذه، وبالفعل، أخذ الإيجار وليلًا خرج من البيت، أخذ القطار العادة «القشاش» إلى القاهرة، وبحث عنه والده فى كل مكان ثم علم أنه عند قريب له فى القاهرة، عندها هدده بالعقاب إن لم يعد، لكنه كان مُصرًا على عدم العودة، وطلب منه أوراقه ليحول دراسته لأحد معاهد القاهرة، فرفض فى البداية، ثم وافق بعد أن اقتربت السنة الدراسية الجديدة خشية أن تضيع عليه السنة الدراسية فأرسل الأوراق، الوظائف التى شغلها عبده صنعت له منزلة كبيرة فى عالم الصحافة، ليس فى مصر فقط، عمل فى دار الهلال فى المصور وفى مجلة كل الناس، عمل مديرًا لتحرير مجلة القاهرة مع الدكتور غالى شكرى فى واحدة من أهم التجارب فى الصحافة الثقافية العربية، عمل فى جريدة السفير فى بيروت، أسس مع سيف الرحبى مجلة نزوى فى سلطنة عمان، ومع طالب الرفاعى مجلة الفنون فى الكويت، التى عمل فيها أيضًا مديرًا لتحرير جريدة القبس، كان يتعامل مع الثقافة العربية على أنها كيان واحد لا يعرف الحدود السياسية والجغرافية، فى زيارتى الأولى للمغرب كنت سعيدًا بمحبة المغاربة له، لدرجة أن أسماء كبيرة مثل محمد شكرى وإدريس الخورى وبهاء الطود رحبت بى بسبب معرفتى به، ظلم عبده نقديًا فى مصر، ربما بسبب الحرج الذى يشعر به الناقد عند الكتابة عن شخص صاحب نفوذ ما، لم يكن عبده صاحب نفوذ فى كل الأماكن التى عمل بها، بالعكس تمامًا، كان يفسح الطريق أمام الموهوبين، ودائمًا كان يقول إنه بذلك يرد الدين لعبدالفتاح الجمل الذى قدمه فى ملحق جريدة المساء الشهير دون سابق معرفة، التحول الكبير فى حياة عبده، الذى تزوج ثلاث مرات، هو سقوط بيته فى السيدة زينب، وكان مشهدًا سرياليًا، كان أحد الأصدقاء نائمًا فى الشقة، وسمع صوتًا غريبًا وبعده سمع ضجيجًا فى الشارع الضيق، فتح باب البلكونة، ولم يجد البلكونة، كانت سقطت، وسقوطها أنهى مرحلة من الدفء والحميمية والكرم والغناء، عاشها معظم المشتغلين فى الكتابة لربع قرن، لحقت نصفهم على الأقل، انتقل بعد ذلك إلى شقة مفروشة بجوار ضريح سعد، كانت شقة موحشة رغم وجود كل شىء بها، حاول أن يجعلها جاذبة للأصدقاء مثل شقة شارع جريدة السياسة ولكنه فشل، كنت أذهب إليه ولا أخرج سعيدًا، لأنه كان حزينًا جدًا بسبب هذا الانتقال القدرى، الذى دفعه إلى السفر إلى الكويت، ولم يكن المكان الذى يعيش فيه هناك أفضل حالًا، قضيت معه ليلة هناك شعرت فيها بغربته الشاسعة، عبده يكون فى أحلى حالاته وسط الأصدقاء والمناقشات والموسيقى، كان طموحه أيامها تأسيس مشروع ثقافى ضخم بمدخراته من رحلته، مكون من دار نشر ومجلة ووحدة لترجمة الأدب العربى إلى اللغات الأخرى، ولكنه حين عاد اتجه إلى قرية تونس بالفيوم وأسس زاد الرمال كمشروع اقتصادى، عبده جبير ليس كاتبًا كبيرًا فقط، ولكنه كان إنسانًا كبيرًا.. ألف رحمة ونور على روحه.