التصور الغربى لليوم التالى فى قطاع غزة
منذ أيام وقبل أن يفصح المشهد فى قطاع غزة، عن نتائج ميدانية على الأرض يمكن البناء عليها، ما اصطلح على تسميته «مستقبل قطاع غزة» وبشكل أكثر تحديدًا، تصور طبيعة الحكم وإدارة القطاع ووضع سكانه من الفلسطينيين. الذى بدأ مبكرًا كان الجانب الأوروبى، قد يكون الأمر بإيعاز من الولايات المتحدة التى تبدو فى حال انشغال تكتيكى كامل. فى جزء رئيسى منه عملية إدارة الأوضاع الميدانية وضمانة ألا تتورط إسرائيل، فى مزيد من الخسائر العسكرية خلال تنفيذها لعمليات التوغل البرى، وفى جانب آخر اهتمامها بألا يتعرض تواجدها المادى داخل قواعدها العسكرية بالمنطقة، إلى تهديد، أو يكبدها خسائر مباشرة لا تتمكن من احتوائها. لهذا ربما تكون قد كلفت الحلفاء الأوروبيين ببحث القضايا الاستراتيجية التى تهمها بالضرورة، مثل مستقبل الحكم فى قطاع غزة، بالنظر إلى أن الهدف الإسرائيلى المعلن من العملية العسكرية هو اقتلاع حركة حماس، ليس من التواجد بغزة فقط، وإنما الأهم من وجهة النظر الإسرائيلية من مقعد إدارة شئون القطاع، على اعتبار أن إمساك قبضتها بتلك الإدارة هو الذى مكنها من استعادة قدراتها العسكرية فى كل مرة بعد جولات الصراع، التى كانت فى كل مرة هدفها المعلن هو القضاء على البنية التحتية لفصائل المقاومة، وفى مقدمتها حماس، فضلًا عن قدرات الفصائل الأخرى.
خلال الأيام الماضية كُشف عن وثيقة تتناول بدء بعض الدول الأوروبية بحث خيارات ما بعد الحرب، أول ما جاء فيها مقترح «تدويل» إدارة قطاع غزة بعد الحرب من خلال «تحالف دولى» يدير قطاع غزة بالتعاون مع الأمم المتحدة، أو من خلالها. أعدت ألمانيا تلك الوثيقة، وبدأت تتناقش فيها مع الأطراف الأوروبية الرئيسية، وتداولتها مع أكثر من عاصمة لها عضوية وازنة داخل الاتحاد الأوروبى. وقد أوردت فيها ما يتعلق بالشق الأمنى المتمثل فى تفكيك أنظمة الأنفاق وتهريب الأسلحة إلى غزة، باعتبار أن التحالف الدولى المقترح سيقوم بمهام التأمين الشامل لغزة بعد الحرب. جاءت تلك الإشارة رغم تحفظ الوثيقة، على القصف العشوائى والمفرط فى استخدام القوة ضد قطاع غزة بشكل عام، حيث ترى استبدال هذا النمط بتكتيك العمليات الجراحية الدقيقة التى يمكن أن تسهم فى استئصال قدرات حماس. وقد أسهبت الوثيقة فى هذا الأمر؛ ووضعت قراءتها التى تؤكد عدم قدرة إسرائيل فى القضاء على حماس بالوسائل العسكرية، كما نصت على ضرورة أن ينصب الجهد الإسرائيلى الأكبر على تجفيف منابع دعم حركة حماس ماليًا وسياسيًا.
الجانب الأوروبى كما كشفت النقاشات التى دارت حول هذا الأمر، ليس متوافقًا حول التصورات النهائية التى يمكن أن تُعد «مستقبلًا متماسكًا» وعمليًا، يعالج المهددات الأمنية من وجهة النظر الإسرائيلية، ويحول دون تكرار مشهد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. فقد تأكد أن نقاشات القادة الأوروبيين فى الأسبوع الماضى خلال قمة للاتحاد فى بروكسل، كانت حادة وأظهرت مدى الانقسامات بين الدول الأعضاء فى التكتل والدفاع حول ملف غزة، حيث امتدت نقاشات زعماء الاتحاد الأوروبى لساعات طويلة من أجل التوصل إلى موقف موحد يدعو لفتح «ممرات إنسانية»، حتى دون التطرق إلى حد الدعوة إلى وقف إطلاق النار مؤقت أو دائم. فيما صوتت عاجلًا ثمانى دول فى الاتحاد الأوروبى، بينها بلجيكا وفرنسا وإسبانيا لصالح قرار غير ملزم يدعو إلى «هدنة إنسانية فورية»، فى الوقت الذى صوتت النمسا والمجر من بين أربع دول أخرى أعضاء بالاتحاد ضد القرار، بينما امتنعت ١٥ دولة بينها ألمانيا وإيطاليا وهولندا عن التصويت. وقد تلقى الاتحاد لومًا وانتقادًا أمريكيًا وإسرائيليًا واسعًا، بسبب عدم ذكر القرار الأوروبى حركة حماس بما تستحقه من اتهامات.
لم يقف أمر التفكير فى مستقبل قطاع غزة عند الجانب الأوروبى بالطبع، فهناك من الكيانات الأمريكية غير الرسمية من بدأت هى الأخرى بطرح الأسئلة، التى تتعلق باليوم التالى للحرب وأهمها بالطبع، هو من سيحكم ويدير القطاع وصولًا إلى أين سيكون موقع السكان الجغرافى، بعد هذا التدمير الهائل لمقدرات الحياة داخل مدن القطاع؟
مركز «كارنيجى» الوثيق الصلة بصناعة القرار الأمريكى نشر تقريرًا بتاريخ ٣١ أكتوبر حول نية إسرائيل فى دفع سكان القطاع جنوبًا، باتجاه سيناء المصرية. جاء فيه العديد من الإشارات الدالة، أهمها أن هدف إسرائيل المعلن هو القضاء على حماس، لكن من الواضح على نحو متزايد أن الحرب تسعى لتحقيق هدفٍ ثانٍ وهو الطرد الجماعى للفلسطينيين من قطاع غزة. وقد أورد التقرير اسمى كل من عميد الجيش السابق أمير أفيفى، والسفير الإسرائيلى السابق لدى الولايات المتحدة، باعتبارهما صاحبى اقتراح واحد، ووجه كل منهما إلى الفلسطينيين بالفرار من غزة عبر معبر رفح الحدودى مع مصر والبحث عن ملجأ فى شبه جزيرة سيناء. ويعتبران هذا المقترح مجرد إجراء إنسانى لحماية المدنيين، بينما تقوم إسرائيل بعمليتها العسكرية، رغم أن تقرير كارنيجى يؤكد أن لديه تقارير أخرى تشير إلى أنه ستتم إعادة توطين الفلسطينيين بشكل دائم خارج غزة، فى عملية تطهير عرقى كاملة.
يبقى الجهد البحثى الإسرائيلى الذى عبر عنه بوضوح معهد «مسخاف» للأمن القومى والاستراتيجية الصهيونية، وهو مركز أبحاث شهير أسسه ويرأسه مسئولون سابقون فى مجالى الدفاع والأمن، حيث نشر تقريرًا بتاريخ ١٧ أكتوبر الماضى، جاء فيه حث مباشر للحكومة الإسرائيلية، للاستفادة مما أسماها «الفرصة الفريدة» والنادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله، و«إعادة توطين» الفلسطينيين فى مصر. كما قدمت لها توصية بضرورة إنشاء «منطقة عازلة» على طول الحدود مع مصر، لضمان عدم عودتهم مرة أخرى إلى داخل القطاع. وهذه الخطط الإسرائيلية أشار لها المركز الأمريكى باعتبارها ليست جديدة تمامًا، فقد كان لها إرهاصات قديمة تدور فى ذات الإطار بأشكال وأنماط مختلفة، وإن ظلت تستند إلى مفهوم واحد وهو «التطهير العرقى» لقطاع غزة، واستغلال الجوار الجغرافى لمصر، فضلًا عن انخراطها بالجهد الأكبر فى حمل عبء هذه القضية، كى تكون مستقرًا للحل الذى يستعصى على الجانب الإسرائيلى الوصول إليه.