أما عن «التوك توك».. فهو فساد كله
قبل سنوات كانت الأفلام الغربية، «أوروبية أو أمريكية»، إذا ما أرادت أن تصور انتقال الأحداث إلى إحدى الدول الفقيرة أو العشوائية، كالهند أو تايلاند أو الصومال أو بنجلاديش أو ما شابه، لا تحتاج إلا إلى مشهد للشوارع المزدحمة بالمشاة والأتوبيسات وعربات الكارو والمتسولين والباعة الجائلين، لكن الصورة لم تكن تكتمل بغير ظهور خاص لـ«التوك توك»، إما كوسيلة نقل وحيدة يمكن البطل استخدامها للتحرك فى زحام الشوارع الضيقة المتكدسة بالبشر والبضائع، أو كتهديد يحمل نشالًا أو قاتلًا مأجورًا.. وربما لهذا أصبح «التوك توك» هو أيقونة التخلف، وعلامة العشوائية، وطريق السقوط والتراجع فى سلم الحياة عمومًا.
واعلم أعزك الله أن «التوك توك»، الذى وصل سعره فى أعوام قليلة إلى مائة ألف جنيه بالتمام والكمال، ليس هو فقط تلك الماكينة الهجينة ما بين السيارة و«الفيسبا»، ولا وسيلة المواصلات الرخيصة التى يمكنها «التزنيق» على الجميع، «ملاكى وتاكسى وأوبر وإندرايف»، حتى أتوبيس النقل العام الذى لا يتردد سائقه فى التوقف فى أى وقت وأى مكان، وإغلاق الطريق على الجميع بقدرة عجوز تقف فى منتصف الطريق وتريد ركوبه، أو حتى صبية فى مقتبل العمر، شريطة أن تكون مليحة الوجه، عفية القوام.. هذا المارد الأزرق الذى لا يهمه «مرسيدس» ولا «بى إم دبليو»، ولا يفرق بينهما وبين «إم جى» أو «فيات ١٢٨»، ولا يقدر عليه أحد، يقف عاجزًا إذا ما زاحمه «توك توك»، أو كسر عليه، أو قرر المرور من «نصف متر» تركه سائق الأتوبيس سهوًا، والوقوف قدامه على خط عبور المشاة.. أما سيارات «الميكروباص» التى يتشارك فى ملكيتها كتاب وصحفيون وأمناء شرطة وبعض المتقاعدين سابقى النفوذ، ولا يتردد سائقها فى «البلطجة» على الجميع، فهذه أيضًا لا حيلة لها فيما يفعله «التوك توك»، وإذا أردت أن أزيدك من الشعر بيتًا، فإن «التوك توك» يا صديقى هو «فساد» كله، فهو البديل الحديث لكل عمل مهنى، أو إنتاج يمكن البناء عليه، أو هو الطريق الأسهل والأيسر للكسب «بعرق الجبين»، هو البديل لعمل الصبى فى ورشة نجارة أو ميكانيكا، وهو البوابة الأرحب للتسرب من التعليم، عام وفنى، ولك أن تتخيل أسرة فقيرة لديها طفل فى العاشرة من عمره، لا يحب المدرسة، ولا تستطيع أسرته الإنفاق على تعليمه، وتقرر تسريبه من التعليم، فماذا ستفعل؟!
زمان كان مثل هذا الصبى يتم إرساله إلى ورشة نجارة، أو ميكانيكا، أو تسليمه إلى أى «صنايعى معرفة» ليتعلم منه «النقاشة أو السباكة» أو ما شابه من حرف، فيدخل سوق العمل، لكن الأمر اختلف مع وجود تلك الماكينة «الهجين»، التى يفضلها الطفل وأهله عن أى شىء آخر.. فلماذا يسلمونه إلى أى «صنايعى أو معلم» قد يصفعه إذا أخطأ، أو يسبه إن تلكأ فى تنفيذ مهمة كلفه بها، أو غيرها من أمور يضطر أى مهنى لفعلها حتى يتمكن من تعليمه؟!.. بينما هو مع «التوك توك» حر تمامًا، يخرج وقتما يشاء، ينام إلى «الضُهر» أو حتى المغرب، ويصحو وقتما يحب ويشاء، يعمل على الماكينة التى تنتظره قدام البيت ساعة أو ساعتين، ثم يركن فى أى مقهى، يدخن الشيشة أو السجائر، ويجلس منجعصًا كأى «كسّيب»، يناكف هذا، ويعاكس تلك، ويملأ فضاء مواقع التواصل الاجتماعى بالشتائم والسباب وقلة الأدب، وكل هذا دون أن يراقبه أحد، أو يشرف عليه أحد، أو يقوّم من سلوكه أحد.. هو حر تمامًا فى يومه، ينفقه كيفما يشاء، المهم أن يعود آخر النهار إلى أمه المسكينة أو والده قليل الحيلة، ومعه ما تيسر من نقود يمكنها أن تعين على الحياة.
ربما ترانى مغاليًا، أو «مزودها حبتين»، لكننى أظن أن هذا هو الأمر الواقع الذى أراه يوميًا، ويراه كثيرون غيرى.. أعرف أنه مع ضيق بعض الشوارع، وعشوائية بعضها، ربما كانت هناك حاجة بالفعل إلى تلك «الماكينة الهجين»، لكن الأمر بحاجة إلى ضبط، وإلى مزيد من القوانين التى يمكنها إعادة النظر فى ذلك المشهد العبثى المدمر، وإعادة هؤلاء الصبية إلى المسارات التى تخدم حياتهم، وحياة أسرهم.. فهم لن يظلوا يعملون كسائقى «توك توك» إلى الأبد، ولن يستطيعوا مجاراة الوافدين الجدد من الصبية مع تقدم العمر بهم.. أما الأهم، والأكثر خطورة، فهو أنه لن يعوضنا أحد عن ذلك النقص الحاد فى جميع المهن الحرة، أو فى مواجهة حالات التسرب من التعليم، وأغلب الظن أنه صار واضحًا جدًا للجميع أنه لم يعد من السهل العثور على «سباك أو نجار أو كهربائى» جيد، ومع رحيل الموجودين حاليًا.. فالأرجح أنه لن يكون لدينا غيرهم، أو من يعوض رحيلهم.