التحوط بالسبائك والجنيهات.. كيف أثرت الأزمة الاقتصادية على تعامل المصريين مع الذهب؟
اعتادت منى جبر، 32 عامًا، على شراء المشغولات الذهبية من أجل التزين، فكلما ادخرت مبلغًا ماليًا ابتاعت به قطعة ذهبية من شارع عبدالرحمن في منطقة حلوان الذي يعج بمحلات الصاغة. لم يكن لدى منى حينئذ أي رغبة أخرى من شراء الذهب سوى التزين فقط.
كان ذلك قبل حلول العام 2022 والذي في منتصفه تغيرت آلية تعامل منى مع الذهب، فبعدما كانت تشتريه الحلي من أجل الزينة اتجهت إلى شراء السبائك والجنيهات بغرض الاستثمار، وخصصت 20% من دخلها السنوي للاستثمار في الذهب.
تقول: «لم يعد هناك رفاهية لشراء الحلي والمشغولات، لأنه يُفرض عليها مصنعية عند الشراء أعلى من السبائك والجنيهات، وعند البيع أيضًا يخسر المشتري ثمن المصنعية». باتت منى خبيرة -كما تصف- في عملية بيع وشراء الذهب رغبة منها في التحوط بهم.
“منى” ليست الوحيدة التي اضطرت إلى تغيير سياستها الشرائية تجاه الذهب، إذ يورد هذا التقرير تأثير الأزمة الاقتصادية على تغيير سياسة تعامل المصريين مع المعدن الأصفر، ولجوؤهم إلى التحوط بالسبائك والجنيهات والأوقيات الذهبية بدلًا من المشغولات للاستثمار وتحقيق أرباح؛ ما أدى إلى ارتفاع مبيعات السبائك مقارنة بالمشغولات وذلك خلال آخر عامين وأثر في الصناعة المحلية.
ارتفاع الإقبال على السبائك
يدلل على ذلك، تقرير مجلس الذهب العالمي للعام الحالي، الذي أشار إلى تضاعف حجم شراء المصريين من السبائك والجنيهات الذهبية (ذهب التحوط) خلال الربع الأول من 2023 إذ بلغ 7 أطنان، مقابل 3.2 طن خلال الفترة نفسها من العام السابق، لتحتل مصر بذلك المرتبة الخامسة عالميًا في الطلب عليهما بعد تركيا، والصين، واليابان، وإيران.
وقفز معدل شراء المصريين من السبائك والعملات الذهبية خلال الربع الثاني من العام الحالي 2023 بنسبة 214% بحجم وصل إلى 10.4 طن، بينما الطلب على المشغولات الذهبية خلال الربع الثاني من العام نفسه ارتفع بنسبة 6% فقط، ليؤكد مجلس الذهب العالمي في تقريره أن الطلب على المشغولات الذهبية يظل ضعيفًا مقارنة مع الطلب على السبائك والعملات الذهبية.
وقارن تقرير الذهب العالمي بين معدلات الطلب على السبائك والمشغولات خلال الستة الأشهر الأولى من العالم الحالي، فزاد الطلب على السبائك بنسبة 80% من إجمالي المسحوبات في السوق المصري، بينما الطلب على المشغولات الذهبية ظل ثابتًا طوال الستة الأشهر الأولى بنسبة 6%.
ولتقليل الفجوة بين مبيعات السبائك والمشغولات، لجأت الحكومة المصرية في مطلع مايو العام 2023 إلى إصدار قرار بإعفاء واردات الذهب التي ترد بصحبة القادمين من الخارج من الضريبة الجمركية والرسوم الأخرى فيما عدا الضريبة على القيمة المضافة وذلك لمدة ستة أشهر.
أدى القرار إلى دخول أكثر من 194 كيلو جرامًا من الذهب بصحبة الركاب القادمين من الخارج، في الفترة من 11 مايو الماضي إلى 11 يونيو الحالي، حسب بيانات وزارة المالية المصرية.
في الوقت نفسه فرضت وزارة التموين ضريبة قيمة مضافة 14% على مصنعية سبائك الذهب الأقل من 100 جرام، وهي نفس النسبة المفروضة على مصنعية المشغولات الذهبية.
تأثير سلبي على الصناعة المحلية
لكن هاني ميلاد، رئيس شعبة الذهب بالغرف التجارية، يرى أن تلك القرارات لن تكون مؤثرة في تغيير الاتجاهات الشرائية للمصريين من الذهب، مفسرًا ذلك بأن مشتري السبائك يستهدف الاستثمار طويل المدى على عكس مشتري المشغولات.
ميلاد يوضح لـ«الدستور» أن هناك إقبالًا كبيرًا خلال آخر عامين من المصريين على شراء السبائك وليس المشغولات، ما يدلل على وجود رغبة استثمارية بحتة لديهم، وتغيير في سياسة التعامل مع الذهب تبعًا للأزمة الاقتصادية.
يؤيد ذلك بيانات جهاز تنمية التجارة الداخلية التابع لوزارة التموين، والذي أكد أن المصريين اشتروا 80 طنًا من الذهب خلال العام الماضي، وسط إقبال وصفه بغير المعتاد على السبائك ( قطعة ذهب مستطيلة الشكل بنقاوة 99%) مقارنة بالمشغولات.
يشرح رئيس الشعبة أن السبائك هي ذهب غير مشغول يُفرض عليها مصنعية أقل من الحلي، لذلك هناك إقبال أكبر عليها: «من لديه وفرة من المال يريد الاحتفاظ بالقيمة الشرائية لها يلجأ إلى السبائك والجنيهات التي تعتبر مخزنًا للقيمة».
ويؤكد أن الإقبال على السبائك له تأثير سلبي على التجار لأن الربح الخاص بهم يكون من مصنعية الحلى، وكلما انخفض الإقبال عليها تبعه انخفاض في أرباحهم والتأثير في الصناعة المحلية للذهب.
انخفض إقبال شراء المصريين على المجوهرات خلال العام الحالي، إذ كشف تقرير صادر عن مجلس الذهب العالمي عن إنفاق المصريين 923.8 مليون دولار على شراء المجوهرات خلال النصف الأول من 2023، مقابل 973.6 مليون دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي بتراجع 5%.
ركود في مبيعات المشغولات
باسم نصيف، أحد تجار الصاغة المتضررين من الإقبال الزائد على السبائك، إذ لمس ركود في مبيعات المشغولات في الفترة من يونيو العام 2022 وحتى الآن بنسبة زادت عن 90%، مقابل زيادة الإقبال على شراء السبائك التي لا تمثل خسارة عند البيع بنسبة 100%.
نصيف يوضح لـ«الدستور» أن زبون السبائك هو مستثمر ومدخر ويعلم أن السبائك تحميه من تقلبات العملة وتقلل من أخطارها عليه لكن المشغولات للتزين فقط، موضحًا أن السبائك مصنعيتها تبدأ من 15 جنيهًا أما الحلي أقل مصنعية 60 جنيهًا، لذلك يخسر التجار من تلك الفجوة بين مبيعات السبائك والمشغولات.
تجميد الأموال في سبائك
لا يهتم شهاب محمود، 32 عامًا، بالتأثير الذي يُحدثه هو وآخرون على الصناعة المحلية للذهب بسبب الإقبال على شراء السبائك وليس المشغولات، كل ما يهدف له هو التحوط من تقلبات العملة خلال المستقبل وإيجاد ملاذ آمن للاستثمار.
تغيرت سياسة محمود تجاه شراء الذهب منذ أواخر العام الماضي، فبعدما كان يبتاع الحلي لزوجته كل فترة، بات يجمد أمواله في جنيهات وسبائك ذهب: «التحوط بالذهب هو الاستثمار الأفضل لمواجهة التضخم لاسيما أن السبائك مصنعيتها أقل».
حجم إنتاج مصر من ذهب التحوط
بلغ إنتاج مصر من ذهب التحوط 441 ألف أوقية بقيمة 788.4 مليون دولار خلال العام 2023، بينما العام 2021 كان الإنتاج 415.3 ألف أوقية بقيمة 733.3 مليون دولار، وفق شركة «سنتامين» الأسترالية المُشغلة لمنجم السكري في مصر.
وبحسب بيانات الشركة فإن إنتاج المنجم بلغ 109.5 ألف أوقية في الربع الأخير من عام 2022 ارتفاعًا من 107.5 ألف أوقية في الفترة نفسها من عام 2021.
ضبط مصنعية المشغولات
فيما يرى سعيد إمبابي، الرئيس التنفيذي لمنصة آي صاغة، أن الضريبة التي فرضت على السبائك لن تُحدث فارقًا ضخمًا يدفع المصريين للعزوف عن شرائها، مبينًا أن التغير الذي حدث في السياسة الشرائية للمصريين تجاه الذهب أثرت في السوق ككل وتتطلب ضبط سوق السبائك.
تحتاج عملية الضبط إلى تغيير ثقافة المشتري بأن الإقبال على السبائك فقط سيؤدي إلى تسريح عمالة مصانع الذهب ويؤثر في السوق، وفق إمبابي، مبينًا أن صناعة المشغولات بكل أنواعها تحتاج من 10 إلى 15 عاملًا في الورشة الصغيرة بينما السبائك تحتاج إلى إنتاجها عاملين فقط.
ويوضح لـ«الدستور» أثر الإقبال على شراء السبائك هو انهيار صناعة المشغولات، لكون القوة الإنتاجية لتخريج كيلو مشغولات تحتاج يومين عمل بينما القوة الإنتاجية لتخريج 10 كيلو سبائك يحتاج وردية واحدة، وهي أمور لا يقدرها المشتري.
وبالمقارنة ففي العام 2019 صدر تقرير لمجلس الذهب العالمي كان فيه الاستهلاك الأكبر من مشتريات المصريين من الذهب للمشغولات الذهبية بموجب 330.25 طنًا مشغولات و32.5 طن من السبائك والجنيهات، بينما في العام 2018 بلغ استهلاك المصريين 24.6 طنًا من المشغولات و2.6 طن من السبائك والجنيهات.
يتألف مجلس الذهب العالمي من الشركات الرائدة في مجال تعدين الذهب وتأسس عام 1987 ويتخذ من لندن مقرًا له.
لذلك يشدد إمبابي على ضرورة ضبط مصنعية المشغولات، فالسوق المصري به كمية ضخمة من الذهب المستورد، وارتفعت مصنعية جرام الذهب الإيطالي إلى 100% أي لو منتج بألف جنيه يباع بثلاثة آلاف بعد المصنعية وهو أمر غير معمول به في العالم.
تباين أسعار المصنعية
دفعت تلك المصنعية المرتفعة على المشغولات هاجر رجب، 29 عامًا، إلى الابتعاد عن شراء الحلي الذي تحبه من أجل التفكير في الاستثمار بالذهب عوضًا عن شرائه لأجل التزين، فاتجهت إلى السبائك والجنيهات.
قفز سعر الذهب عيار 21 قيراطًا الأكثر شعبية في مصر إلى 58% منذ بداية 2023 وبأكثر من 167% خلال 12 شهرًا، بقيمة مالية تتجاوز 1000 جنيه خلال 4 شهور، وزادت قيمة المصنعية للمشغولات الذهبية بنسبة 10% منذ يوليو الماضي، وفق شعبة الذهب.
تقول هاجر: «المصنعية على الذهب ليس مضبوطة في السوق المصري فكل محل يضع المصنعية التي تحقق له الربح المالي الأكبر، وكل قطعة تختلف في مصنعيتها عن الأخرى، على عكس السبائك والتي لها مصنعية ثابتة».
تنتج مصر نحو 15.8 طن من الذهب سنويًا وفق آخر إحصائيات مجلس الذهب العالمي، وتحتضن نحو 270 موقع ذهب، بينها 120 موقعًا ومنجمًا تم استخراج الذهب منها قديمًا وتتوزع إلى 4 قطاعات.
وارتفعت واردات مصر من الذهب بنسبة 1093% خلال العام 2021 إذ استوردت ذهبًا بقيمة 114 مليون دولار، بينما في العام 2020 كانت فاتورة الاستيراد من الذهب تقدر بـ10 ملايين دولار وفق تقرير صدر من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادر في ديسمبر 2021.
التأثير في احتياطات الذهب
شادي السعدني، خبير أسواق الذهب، يوضح أن الفجوة بين مبيعات السبائك والمشغولات تؤثر في احتياطات الدول من الذهب، مبينًا أن المشغولات يفرض عليها قيمة جمركية، فإذا كان تكلفة تصنيع السبيكة تساوي 1% من قيمة جرام الذهب، فإن تكلفة تصنيع المصوغات تساوي 7% من قيمة الذهب.
وإلى مارس العام 2023 بلغ احتياطي البنك المركزي المصري من الذهب 125.7 طن وفق تقرير مجلس الذهب العالمي في مايو، مقابل 125 طنًا في مارس 2022 وبذلك شكل الذهب 25% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي.
السعدني يوضح لـ«الدستور» أن الإقبال على السبائك فقط دون المشغولات تؤدي إلى حدوث ركود في سوق الذهب نفسه، وقلة حركة الأموال لأن الشراء يكون وقتها بهدف الادخار فيحدث ركود في المشغولات وركود في احتياطات الذهب لديها.
هناك خمس دول تعد الأكبر في احتياطي الذهب على مستوى العالم، هم: «أمريكا 8.133 ألف طن، ألمانيا 3.354 ألف طن، صندوق النقد الدولي 2.814 ألف طن، إيطاليا 2.451 ألف طن، فرنسا 2.436 ألف طن».
أما على الصعيد العربي فإن أعلى 5 دول في احتياطات في الذهب: «السعودية 323.1 طن، لبنان 286.8 طن، الجزائر 173.6 طن، العراق 130.3 طن، مصر 125.7 طن».
بينما أكبر 5 دول منتجة للذهب عالميًا هم: «الصين 330 طنًا، أستراليا 320 طنًا، روسيا 320 طنًا، كندا 220 طنًا، أمريكا 170طنًا»
المصدر - مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرارات
ما زالت منى تبتاع السبائك والجنيهات خوفًا من تقلبات العملة، بينما لا يتهم محمود بالأثر الذي يُحدثه إقباله الشديد على التحوط بالسبائك دون المشغولات، فيما يزيد ارتفاع مصنعية الحلي مقارنة بالسبائك من رغبة هاجر في الإقبال على السبائك.