50 سنة نصر أكتوبر.. الفريق محمد عبدالغنى الجمسى: كان أساس عملنا دراسة مصادر قوة العدو
انقضى عام على اليوم التاريخى الذى قدمنا له أرواحنا وكل طاقاتنا فداءً وفدية، ٦ أكتوبر ١٩٧٣، الخالد على مدى الأيام والأجيال. واليوم، نقف كقوات مسلحة أكثر تفوقًا عن عام مضى، أكثر استعدادًا وخبرة، أكثر يقظة واستيعابًا للسلاح والمعركة، وكل مقاتل، بل كل عربى استرد كرامته، ورفع رأسه عاليًا، وفاخر بعروبته بعد سنوات مريرة من الألم والمرارة والتمزق، ولكنها فى الوقت نفسه كانت تضم سنوات الصبر والصمت، ذلك الشعار الذى رفعه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتحقق من خلاله أعظم الأعمال والمنجزات التى قدمتها قواتنا المسلحة فى حرب رمضان المجيدة، وفى مقدمتها عامل المفاجأة، وقد اقتحمنا بها العدو الإسرائيلى، فأصيب بالزلزلة والتصدع، المفاجأة الكاملة فى أرقى أشكالها، استراتيجيًا وتكتيكيًا، وهنا تكمن قيمتها العسكرية الكبرى، فوقفت أمامها قيادات عسكرية عالمية بالدهشة والإكبار، وجاء إلينا ممثلو أكثر من ستين قيادة عسكرية تمثل أسلحة جيوشها لتدرس نتائج الحرب، وتستخلص منها دروسًا مستفادة. لقد حطمت حرب أكتوبر أسطورة الجيش الإسرائيلى، ومرغت نوعيته المتفوقة فى رمال سيناء، ومزقت قيادته التى ترنحت طويلًا بخمر النصر السريع الهزيل فى ١٩٦٧، وعزلت كل جنرالاته وقادته، وقدمت أكثرهم إلى المحاكمات، وأصابت سكان إسرائيل بالصدمة التى روعتهم حين شاهدوا جيشهم الذى لا يقهر، وهو يتساقط فوق صحراء سيناء أو الجولان.. قتلى أو أسرى، وأصبح كل بيت إسرائيلى يضم قتيلًا أو جريحًا، كما سقطت نظريات الأمن الإسرائيلى، وتبدلت موازين عديدة لها أهميتها فى المجتمع الدولى، واسترد شعبنا ثقته فى قواته المسلحة وفى عروبته وفى قدرته وفى مستقبله المشرق بعون الله ورعايته.
نعود إلى المفاجأة، وهى تمثل ركنًا مهمًا من أركان إعداد قواتنا للحرب التحريرية العظمى، منذ تولى القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس أنور السادات ولاية الوطن، وفى تقديره كل الحسابات والاحتمالات، وفى الدرجة الأولى تهيئة المناخ السليم لكى تصبح قواتنا المسلحة على درجة كافية من الاستعداد لشن هجوم كاسح ناجح، ثم الاستمرار بكل الصمود والثقل العسكرى لمواجهة مرحلة ما بعد الهجوم، وهى حسابات لا تقبل تقديرات عفوية أو نتائج قدرية، وفى مقدمتها مفاجأة العدو بأكبر حجم تتمكن منه قواتنا، المفاجأة ليست بهدف خفض ضراوة القتال أو تقليلها، فذلك شىء كان مقدرًا ومعروفًا، وقد تدرب عليه الرجال بأقصى التدريبات الميدانية بالذخيرة الحية، وإنما المفاجأة كان مقصودًا بها شل حركة العدو لفترة من الوقت، محسوبة زمنيًا لدينا، وبذلك نقل من خسائرنا فى مقاتلينا ومعداتنا، وقد وفقنا الله فى تحويل خططنا إلى واقع حى، وفى تكامل عسكرى راقٍ؛ حتى إن بعض المستشفيات التى خصصت لجرحى المعركة والطوارئ فى أنحاء الجمهورية لم يدخلها مقاتل جريح واحد. وفى الجانب الآخر نجد خسائر إسرائيل، طبقًا للمصادر الأمريكية وليست العربية، تقول إنها بلغت ٨ آلاف قتيل، و٢٠ ألف جريح، وألف دبابة، و٢٠٠ طائرة. ونعود إلى قواتنا وإعدادها للحرب، وما ظهر للشعوب أجمع من شجاعة وبطولة وقدرة المقاتل المصرى القتالية وعظيم تضحياته، وهجومه الأسطورى خلال معارك الدبابات التاريخية التى وقعت بهذا الحجم لأول مرة فى تاريخ العالم العسكرى، فكان النصر والتفوق فيها للجندى المصرى، وقد خاضها بمفاجأة أخرى لا تقل روعة وأهمية عن مفاجأة الساعة ٢ ظهر يوم ٦ أكتوبر العظيم.. تلك المفاجأة الثانية، وأعنى بها المقاتل حامل السلاح الصغير المضاد للدبابات، التى حطم فيها أبناؤنا قوة إسرائيل رقم ٢، سلاح مدرعاتها، وانتهت بأن أصبحت الدبابة الإسرائيلية تعدو هربًا أمام جندى مصرى يعدو خلفها ليضع فيها طلقته وهو على بعد عدة أمتار قليلة منها، فى إصابة مباشرة، وكانت هذه الصورة محل اهتمام ونقاش قادة العالم العسكريين الذين زاروا بلادنا وقرأوا للمعلقين الغربيين ممن رافقوا قوات إسرائيل، وبعضهم ذهب إلى قواتنا فى سيناء، هذه القصة المثيرة عسكريًا.. الدبابة تعدو هاربة من جندى مصرى مترجل يلحق بها على قدميه ولا يتركها إلا وقد احترقت أو دُمرت تمامًا! لقد أطلق الغرب على هذه العمليات الهجومية وصفًا تلقفته بقية الصحف العالمية.. أطلقوا عليها «معارك اللحم البشرى ضد الصلب». وفى الوقت نفسه كانت وحدات دباباتنا تؤدى مهامها بكل الاستطاعة والسيطرة، وقد دخلت فى معارك تصادمية مكثفة ضد قوات العدو المدرعة والميكانيكية وضد طائراته، وناورت أجود المناورة، وظل التفوق حليفها دائمًا، ففى الخطة العامة كان التنسيق عاليًا بين مهام جنود المدفعية المضادة لدبابات العدو، ومهام المشاة ووحدات الدبابات المصرية، وبفضل التخطيط المحكم والتنفيذ الجيد فى الميدان برزت خسائر إسرائيل العالية فى الدبابات، ما جعل بعض القادة والمحللين العسكريين فى أنحاء كثيرة من أوروبا وأمريكا يقولون بانتهاء دور الدبابة فى حروب المستقبل، بعد أن قضى عليها الجندى المصرى فى حرب رمضان. وفى رأيى، كضابط مدرعات أصلًا، أن الدبابة ستظل بتأثيرها النيرانى قوية عبر المعارك المقبلة، وستبقى لها مهام هجومية أقوى وأوسع وستزود بخفة حركة أكبر، وبحجم نيران أكبر أيضًا، وسنرى الدبابة باقية كقوة ضاربة أولى للقوات البرية، ولكنه بالضرورة سيدخل عليها، تصنيعًا وتسليحًا، أكثر من تعديل وتطوير تقليدى وصاروخى، هو نتاج طبيعى لحصيلة معارك حرب أكتوبر فى صحراء سيناء وغرب القناة، وقد بدأت أمريكا هذا التطوير فعلًا. إنه رأيى كمقاتل مصرى، وليس تحيزًا للدبابات التى أنتمى بشبابى إليها.
إن الحديث عن حرب أكتوبر والإعداد لها ثم القيام بها يتطلب مجلدات عديدة لا كلمة قصيرة، ولكنها الذكرى الحبيبة إلى قلوب العرب، ذكرى النصر وما أحلاها ذكرى إلى الأبد. سأقتصد وأوجز حول التخطيط.. فكما كان جندى المشاة المصرى، أو المدفعية أو الدبابات أو الدفاع الجوى أو البحرية أو المهندسين أو الطيران أو الاستطلاع أو القوات الخاصة «بطلًا» بمعنى الإعجاز، عملاقًا بقتاله وهجومه وتكتيكه واستخدامه للسلاح أحسن استخدام.. كما كان المقاتل المصرى بتلك الكفاءة، كانت القيادات التى وعت الموقف وقضت الأيام تفكر، وتقترح وتستنبط أسلوبًا جديدًا لكل سلاح، ثم تعود وتخطط أفكارًا واقتراحات من جديد، على مستوى أسلحة القوات المسلحة كلها، برًا وجوًا وبحرًا. وكانت هذه القيادات قمة من قمم الذكاء العسكرى المصرى والفكرى والمعارف العسكرية الراقية، والعقل الناضج المبتكر الخلاق الثرى بأفكار الحرب الفريدة المتميزة بالإضافات والفنون المدعمة بالعلم وقوانين القتال، كما كان أفراد هذه القيادات قمة ثرية بالأصالة والرجولة والمسئولية حين تكتموا فى سرية مطلقة ما يعدونه من وثائق وما يدور فى اجتماعاتهم من أحاديث وحوار يتعلق بكل صغيرة وكبيرة خلال الهجوم، من استدعاء الاحتياطى، إلى موجات مياه القناة، إلى نقل الذخيرة لسيناء، إلى ارتفاع طلقات المدفعية وأبناؤنا يعبرون، إلى ملابس المقاتل وما يحمله داخلها من ذخيرة وطعام، حتى العبور بالمفارز الأولى ثم بأرتال الأبطال، من الضفة الغربية وساترنا الترابى حتى ساتر العدو، من الهجوم على دشم بارليف حتى تطوير الهجوم إلى عمق سيناء.. وعشرات أخرى من قضايا الحرب الرئيسية. إن وثائق الحرب تعلن عن وصول العسكرية المصرية إلى أشرف القدرات على التخطيط والتجهيز للمعركة، ثم التنفيذ ساعة الصفر لتعطى فى النهاية ذلك العمل التاريخى الذى قال عنه القائد الأعلى: «سيتوقف التاريخ طويلًا أمام حرب السادس من أكتوبر بالدراسة والفحص والتقصى». لم تكن عمليات السادس من أكتوبر خبطة حظ عشواء، ولم تقم على تقديرات اجتهادية، ولم تعتمد على ما فى صدر المقاتل المصرى من ثأر متأجج، وسلاح متوافر فى يده.. إن الحرب كانت تحكمها حسابات مختلفة نابعة من مناخ وبيئة عسكرية تختلف تمامًا عن بيئة ومناخ الأمس البعيد، فالمعركة مصيرية. ورغم إيمان الرئيس السادات المطلق بالعسكرية المصرية والمقاتل المصرى أقوى الإيمان، فقد اعتمد التخطيط العلمى لكل خطوة وما تليها من خطوات مضادة، وما نقوم به من ردود وهجوم لإحباط الهجوم المضاد، كان يعلم بأن المعركة لها التأثير الضخم، ليس على مصر الحاضر فحسب، بل على مصر المقبلة. مصر المستقبل بأجيالها القادمة، فكان الله معه دائمًا يزوده بالرؤية الصادقة وهو يتنقل بين وحدات القوات الضاربة فى خطوط القتال الأولى غرب القناة، وفى مناطق حشد القوات بالعمق، فى قواعد الطيران وفى سلاح الإشارة وفى القوات البحرية، فى أرض المناورات يسأل ويتقصى ويشجع ويناقش ويستوعب كل الآراء، ليصدر فى النهاية قرار المعركة، ذلك القرار الصائب الذى غيّر مجرى التاريخ، ويحدد بعد ذلك ساعة الصفر، اللحظة المحفورة فى قلوب وعقول المصريين وأبناء الوطن جميعًا. لقد اعتمدت خطتنا للحرب على دراسة العدو دراسة ناضجة واقعية راصدة لكل الجزئيات، وكانت تلك المهمة هى الخطوة الأولى على الطريق الصحيح، دراسة يخدمها خط طويل من المعلومات الطازجة باستمرار، معلومات عن العدو ظلت تصل إلينا حتى ما قبل الهجوم بدقائق وتتضمن مصادر قوة إسرائيل ونشاطها العسكرى، كل مصدر على حدة، لكى نضع القوة اللازمة للتغلب على هذا المصدر بإيجابية تامة، وبمفاجأة كاملة يتصدع بعدها. وكان أهم مصدرين فى قوة إسرائيل العسكرية هما الطيران والمدرعات. على مستوى الطيران أعددنا السلاح المضاد، وكان سلاح دفاعنا الجوى العملاق إلى جانب الطيران المصرى البطل، وقد استعد السلاحان سنوات حافلة بالتدريب المستمر المتطور دائمًا نهارًا وليلًا لليوم الموعود، حتى استطاع الدفاع الجوى المصرى بكل الاقتدار والكفاءة بتر ذراع إسرائيل الطويلة المعربدة، كما حققت قواتنا الجوية، بأرقام قياسية فى الطلقات والهجمات والاعتراض الجوى، معدلات أقرب إلى المعجزات، واضطر طيران إسرائيل إلى تخصيص نصف طلعاته لتبقى مظلات جوية دائمة فوق مدن إسرائيل وقواته خلف الممرات. وبذلك سقطت أسطورة طيران إسرائيل وتفوقه، نوعًا وكمًا.. تلك الأسطورة التى حاول العدو طويلًا تثبيتها فى أذهان الشعوب العربية قبل الأوروبية. وعلى مستوى القوات البرية العدوة نجد المدرعات، وتقدم جندى المشاة حاملًا المدفع الصغير المضاد للدبابات بكفاءة تدريب عالية المستوى وبنوعية بشرية منتقاة بعناية وخبرة، وكانت المفاجأة الثانية التى سبق وأشرت إليها، وتغلب تخطيطنا على استراتيجية العدو القائمة على الطيران والدروع، وتحولت كل هجماته إلى إجراءات فاشلة. ذلك كان تخطيط كل مهامنا، وأساس عملنا، التخطيط المبصر لكل الأبعاد، والقائم بين ما نملكه من إمكانات، وفى حدودها نعمل ونقوم بواجباتنا، ابتداءً من التخطيط العلمى للعبور واجتياز قناة السويس بكل موانعها وألغامها وأخطارها، والعدو يسيطر على الضفة الشرقية أخطر السيطرة، وأمامنا مرابض دباباته وأسلحته ومدفعياته، وانتهاءً بوقفتنا الحالية قادرين على تأدية كل المهام بأعلى الكفاءة، رافعين راياتنا فى انتظار قرار القائد الأعلى للقوات المسلحة.
إننى أختتم هذه الكلمات بالجملة التى قالها المشير أحمد إسماعيل على، القائد العام لقواتنا المسلحة، بعد أن تسلم قرار التكليف بالقيادة من الرئيس السادات، جملة بالغة الدلالة العسكرية والوعى بالموقف والمهمة الموكولة إليه. «إن للقوات المسلحة واجبًا واحدًا فقط، ولا واجب غيره على الإطلاق، وهو أن تتلقى الأمر بالقتال فتقاتل». وكان ميلادنا الجديد فى نهار ساطع ظهر السادس من أكتوبر ١٩٧٣.
رئيس أركان القوات المسلحة.