إسماعيل بيومى «قاهر خط بارليف»: حزنت لنقلى من الجبهة إلى سلاح المهندسين فأصبحت «حكمدار» مجموعة اقتحام الساتر الترابى
- تدربنا على الطلمبات وماكينات ضخ المياه 4 سنوات.. ولم نكن ندرك طبيعة ما نتدرب عليه
- شعرنا بأشياء غير طبيعية يوم 6 أكتوبر بعد تغيير «الشَدّة» ولم نعلم أنها الحرب إلا لحظة عبور الطيران
- أصبت مرتين بصواريخ إسرائيلية وقبّلت ذراعى المبتورة قبل دفنها فى موقع إصابتى
- عبرت القناة بذراع واحدة.. ومكثت فى السويس تحت الحصار لمدة 22 يومًا قبل استكمال العلاج
وثّق إسماعيل بيومى، أحد أبطال سلاح المهندسين فى حرب أكتوبر المجيدة وحكمدار الساتر الترابى، شهادته عن يوم النصر، مؤكدًا أن الجنود المصريين قبيل الحرب كانوا وحوشًا محبوسة تريد أن تنطلق وتحارب، بعد أن تدربوا على مهامهم عدة سنوات دون أن يدركوا أحيانًا طبيعة وأهمية ما يتم التدرب عليه.
وروى البطل، الذى لقبه الرئيس الراحل محمد أنور السادات بقاهر خط بارليف، فى حديثه لبرنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز، على فضائية «إكسترا نيوز»، قصة إصابته مرتين أثناء الحرب، وحكاية فقدانه ذراعه إثر تعرضه لقصف صاروخى من العدو، والصعوبات التى واجهته للوصول إلى الكتيبة الطبية، التى قصف العدو موقعها، ثم بقائه لمدة ٢٢ يومًا تحت الحصار فى السويس، قبل أن يستطيع استكمال علاجه، ويحظى بالتكريم مع زملائه من الأبطال والشهداء والمصابين.
■ كيف كانت تجربتك فى المقاومة الشعبية فى الإسماعيلية بعد نكسة ١٩٦٧؟
- بعد النكسة، رأينا جزءًا كبيرًا من الجيش المصرى ينسحب من سيناء، وإسرائيل بالنسبة لنا كانت ٣ ملايين نسمة وكنا ٤٠ مليونًا، وكنا نقول: إزاى ننهزم؟ وانضممت وقتها للمقاومة الشعبية، بدأنا نتسلم السلاح من الاتحاد الاشتراكى والمحافظة ومديرية الأمن، للدفاع عن الوطن، وكانت بيننا وبين العدو مسافة ٢ كيلومتر فقط.
وذهبنا لتسلم السلاح ووقفنا فى طوابير، ووقتها ألقى الطيران الإسرائيلى قنابل على ميدان شامبليون، والحماس أخدنا ووصلنا لأماكن تخزين الذخيرة، وأصبت فى يدى بسبب صناديقها، ووضعت الذخيرة داخل القميص.
ورجعت إلى البيت فى يوم خطاب تنحى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد نكسة ١٩٦٧ وأغمى علىّ، وبعدها سحبوا منّا السلاح وبدأ تنظيم الجيش والمقاومة الشعبية، ثم تسلمت السلاح مرة أخرى، وظللت معهم خلال هذه الفترة، وكان العدو يضربنا بالصواريخ.
ووفق تكوينى كنت قد تربيت على الوطنية من أيام الاحتلال الإنجليزى، وحضرت العديد من المعارك، وذاكرتى كانت بها معارك الإسماعيلية، مثل معركة الشرطة ومعركة الفدائيين ومعركة تأمين قناة السويس، وكنت دائمًا أريد الالتحاق بالجيش المصرى، ولكنى لم أكن قد أكملت السن القانونية، وكنت أريد أن أمسك بيدى شيئًا أكبر من البندقية.
■ وماذا عن فترة تجنيدك فى الجيش المصرى؟
- تم تجنيدى فى الجيش فى عام ١٩٦٩، وذهبت إلى سلاح المهندسين، وبعد التدريب الأوّلى فى مركز التدريب بدأوا يختارون على الفرازة الناس الذين كانوا يستخدمون مضخات المياه، وتدربنا فى منتصف عام ٦٩ فى حلوان، وكنت حزينًا جدًا وقتها؛ لأننى تركت الجبهة وذهبت إلى المنطقة المركزية، وكنا نتدرب على أشياء مش عارفين هى إيه، وكنت أريد أن أحارب وأشتبك، وفى البداية جاءوا بطلمبات السد العالى، لكننا لم نستخدمها فى الحرب، وبعد ذلك تدربنا على الماكينات الخفيفة المستوردة من ألمانيا لمدة ٤ سنوات.
ووقتها قال الرئيس الراحل أنور السادات فى خطاب له بعد أكتوبر: «الألمان ضحكوا عليا، وقالوا ده معندوش ناطحات سحاب، وهيوقع المبانى بالماكينات المستوردة»، وقد تدربت على هذا السلاح لمدة ٤ سنوات فى جميع المناطق التى تشبه قناة السويس.
■ ماذا كانت الأوضاع داخل القوات المسلحة قبيل ٦ أكتوبر؟
- الجنود كلهم كانوا صامدين، لكن الأهالى فى مدن القناة كانت حالتهم صعبة وكانوا مشتتين، فسيناء محتلة وقناة السويس معطلة، ومدن القناة مهجرة، وبيوتهم مُدمرة، والإحساس بواجبنا الوطنى كان عاليًا جدًا، لأننا كنا وحوشًا محبوسة تريد أن تنطلق وتحارب.
■ متى عرفت بقرار العبور وماذا فعلت يومها؟
- علمت بقرار العبور فى وقته، أى فى يوم ٦ أكتوبر، فقد نقلونا إلى ضفة القناة فى المنطقة التى سنعمل بها، وقالوا لنا: فيه مشروع هيتعمل هناك، وكانت معنا معدات العبور فى مناطق قريبة، وهى عبارة عن مكن مضخات وبعض الفلنكات، فلنكات تُربط بحبال يمكن للجندى أن يمشى عليها، وفلنكات خشبية، وكنا نستعمل لنشات بدلًا من القوارب لكى تتحمل المعدات المنقولة، والقوارب كانت تستخدمها القوات الخاصة لعبور القناة ثم الصعود للساتر الترابى واقتحام النقاط الحصينة.
وفى كل هذا كنا نفك ونركب ونتدرب تدريبات خفيفة، وشعرنا بأشياء غير طبيعية، فقد سحبوا من الأفراد الكارنيهات والشدة الثقيلة، وأعطونا سترة تحمل جميع الأشياء، وقرصًا معدنيًا مدونًا عليه الاسم والرقم، وهذا لم يكن يحدث من قبل، لكننا كنا سعداء بهذا الشعور.
وفى يوم ٦ أكتوبر كان أول ما حدث هو عبور الطيران، ووقتها أيقنت بموعد العبور مع تحرك الطيران والمدفعية، وشعرت بأن الدور على سلاح المهندسين، وبعدها المشاة والقوات الخاصة حسب التدريبات.
وكنت حكمدار مجموعة اقتحام الساتر الترابى، ولم نشعر بلحظة عبور المانع المائى، ولكن الساتر الترابى كانت خلفه نقاط حصينة من الصعب اقتحامها، وبدأنا فى الاقتحام حسب التدريبات، وكان كثيرًا ما يتردد فى وسائل الإعلام أن خط بارليف يحتاج إلى قنبلة نووية لاقتحامه، وكان وزير الدفاع الإسرائيلى وقتها يقول إنه لو اتحد سلاح المهندسين للاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية لفشلوا فى اقتحام مانع بارليف، وكانت تلك حربًا نفسية للمقاتل المصرى، وكان الجنود فى صراع مع هذا الساتر وما وراءه.
وسلاح المهندسين كان يتكون من أكثر من قسم، فهناك قسم مسئول عن مضخات المياه ويليه قسم لإنشاء الكبارى، ووحدات لإزالة الألغام، وكنت فى جزء مضخات المياه، وبدأنا العمل فى وقت لم تكن فيه القوات التى عبرت قد استولت بعد على النقاط الحصينة، وكان يتم إلقاء صواريخ أثناء عملنا فى اختراق الساتر الترابى، وكان لدى الجميع إصرار على العبور والنصر أو الشهادة.
واستطعنا عمل فتحة فى الساتر الترابى أو شارع بعرض ٢٠ مترًا فى ساعتين، وبعدها كان يصعد البلدوزر ليذيب الخليط فى المياه، ثم تم تأمين المعابر وإخلاء الجرحى، وكنت أتحرك وقتها مع لانش، لأنتقل من مكان لآخر.
■ ماذا عن يوم ٧ أكتوبر وظروف إصابتك؟
- تعرضت للإصابة بعد سقوط صاروخ على اللانش الذى كان ينقلنا فى يوم ٧ أكتوبر، فقد كنا نتحرك من مكان لآخر بعد انتهاء مهمتنا يوم ٦ أكتوبر، وهى فتح الثغرات فى الساتر الترابى، وكانت قواتنا قد حاصرت النقاط الحصينة داخل سيناء، وكان العدو يقذفنا بالصواريخ بكثافة، ولم يكن هناك شىء يستر القوات فى قناة السويس، فنزل صاروخ فى اللانش الذى أتحرك به، واستشهد عدد من الجنود، وكنت من ضمن المصابين.
وعندما كنت أغطس فى المياه بعد ضرب اللانش وأعود للارتفاع إلى السطح مجددًا، أجد لهيبًا ودماء، فالمياه كانت مشتعلة، ثم رجعت إلى الضفة الغربية للقناة حتى أسترد قوتى، وذلك فى ربع ساعة تقريبًا.
وعندما عدت للضفة الغربية كانت صواريخ العدو تُطير النخل فى الجناين على ساحل السويس، وكنا نأخذ قنوات المياه داخل الجناين ساترًا من الصواريخ، وذلك حتى طلوع فجر اليوم الثانى، حين وجدت القادة فوق رءوسنا، وتم إرسالنا لنقاط الإسعاف، وبعد عمل الإسعافات الأولية ووضع شاش على الجروح والحروق واستخراج الشظايا رفضت أن يتم نقلى من مدن القناة أو أن أترك المعركة وأعود لأسرتى فى الشرقية.
وكان القادة قد حاولوا نقلى من مكانى نظرًا لإصابتى، لكنى رفضت ترك المعركة، وكان من بين هؤلاء القادة العميد أحمد حمدى، فى ذلك الوقت، وفى نفس الليلة عدت لساحة المعركة، حتى إصابتى الثانية فى يوم ٢٤ أكتوبر.
■ ما مهمتك الأساسية فى الفترة بين الإصابة الأولى والثانية؟
- قبل إصابتى الثانية يوم ٢٤ أكتوبر كانت مهمتى الأساسية تتمثل فى تسلم الجرحى وتسليم الأسرى للجهات المعنية، وتأمين المعابر من تسلل العدو.
وكانت الأمم المتحدة قد أصدرت قرارًا يوم ٢٢ أكتوبر حول ضرورة وقف إطلاق النار، ووافق الجانب المصرى على هذا القرار، لكن كان لإسرائيل رأى آخر، إذ لم يلتزم اليهود بهذا القرار على الإطلاق.
ويمكن القول إن الولايات المتحدة ساعدت الجانب الإسرائيلى فى إقامة جسر لعبور القناة، ولم نكن نعرف فى هذا الوقت الجهة التى تساعد إسرائيل، وهو ما تم بعد ذلك، لهذا جاءت الأوامر بضرورة حماية المواقع المصرية لمنع تسلل العدو من على الجسر على اتجاه السويس، ولهذا تم تنفيذ حفر برمائية، مع وضع الألغام فى المواقع، وإقامة كمائن، على أن تكون المسافة الواقعة بين كل كمين والآخر نحو ١٠٠ متر.
وحدث اشتباك مع العدو يوم ٢٣ أكتوبر، وتكبد الجيش الإسرائيلى الكثير من الخسائر فى هذا اليوم، ولم يتم سحب أى جندى من سيناء فى هذا التوقيت، وكانت إسرائيل عندما تلاحقها الخسائر تبتعد سريعًا عن موقع الاشتباك، وكان يتم إرسال الطيران سريعًا للالتفاف حول مواقع الجنود المصريين ليقوم بإطلاق القنابل والصواريخ، والتى كانت تلحق بنا الخسائر، ولكن ليس بنفس مقدار الخسائر التى كانت تتكبدها إسرائيل، وظل الاشتباك مستمرًا حتى يوم ٢٤ أكتوبر، إذ كان العدو يرسل غارات من الطائرات على مدار اليومين بشكل متقطع.
وفى يوم ٢٤ أكتوبر، تمت إصابتى من خلال صاروخ أرسله العدو وسقط بجوار الحفرة التى كنت أمكث فيها، وحاولت النهوض من الحفرة بذراع واحدة، لأن الذراع الأخرى لم تعد موجودة، وهنا أدركت أننى أصبت، وحاول زملائى نقلى إلى السويس، لكنى رفضت ذلك بقوة، لأننى كنت لا أرغب فى ترك الأرض رغم الإصابة البالغة، خاصة أن الهجوم الإسرائيلى كان شرسًا جدًا فى هذا التوقيت.
■ وماذا فعلت بعد الإصابة؟
- حاول أحد الجنود نقلى إلى السويس، لكن رفضت ذلك، وأمرت بأن يلزم كل جندى موقعه، وبقيت فى هذه الحفرة لمدة ثلاث ساعات متتالية، لأفكر فى حل لهذه الإصابة دون ترك الموقع، وكان النزيف يزداد، لهذا قام أحد الجنود بربط الباقى من ذراعى بشكل محكم، لمحاولة إيقاف النزيف، لكنه بدأ يزداد شيئًا فشيئًا مرة أخرى، لهذا فكرت فى الذهاب إلى الفرقة التى عبرت القناة، لأنه كانت برفقتها كتائب طبية، وكنت أنوى العودة سريعًا إلى موقعى بعد العلاج.
وبالفعل عزمت على عبور القناة، وقبل العبور قبّلت الجزء المفقود من ذراعى وقرأت عليه القرآن ودفنته فى موقع الإصابة، ثم عبرت القناة بذراع واحدة، لكن لم يصاحبنى شعور الحزن آنذاك، لأن النصر ليس أمرًا هينًا، بل يحتاج إلى التضحية، وما فقدته كان مجرد ذراع، وليس استشهادًا كاملًا مثلما حدث مع أصدقائى.
وكانت رحلة عبور القناة للعودة أمرًا مرهقًا لعدة أسباب، منها قلة النوم، وقلة الغذاء، ونزيف ذراعى اليمنى المفقودة، لهذا شعرت بالدوار الشديد فى منتصف المياه، ونطقت الشهادة وأدركت أننى قد أموت.
وكانت القوات الإسرائيلية وقتها تطلق عبوات ناسفة بكثافة، وبشكل عشوائى، أثناء لحظات وجودى فى المياه، وهذه العبوات كانت تغلى المياه من حولى، وكان الموج يرتفع ويهبط، ثم شعرت بهدوء هذا الصراع، ووجدت نفسى على الضفة الشرقية من القناة، ولكنى كنت بعيدًا عن الكتائب الطبية، لهذا مكثت ليلة كاملة على الضفة الشرقية فى بطانة قناة السويس التى كانت تشبه الشعب المرجانية، وكانت هذه الليلة تمر تحت قصف العدو، فى ظل استمرار النزيف، وعندما كنت أحاول أن أنادى على الجنود بصوت مرتفع كان النزيف يكثر، لهذا سلمت أمرى إلى الله سبحانه وتعالى، ونطقت الشهادة مرة أخرى.
ووقتها أقبل علىَّ أحد الجنود بعدما رآنى عالقًا فى المياه، وطلبت منه أن يسحبنى بحبل لعبور الساتر الترابى من ناحيتنا، وكان هذا الأمر بالغ الصعوبة والألم، وبعد الصعود من على هذا الساتر الترابى ركبت السيارة وذهبت إلى منطقة عيون موسى لتلقى العلاج.
وأثناء الطريق كان العدو يطلق الصواريخ على السيارة التى كنت بداخلها، وكان السائق والجندى اللذان يصاحبانى يلقيان بنفسيهما من السيارة لتفادى الصاروخ ثم يعودان إليها مرة أخرى، أما أنا فلم يكن بمقدورى أن أعمل أى شىء سوى نطق الشهادة.
وعندما ذهبنا إلى عيون موسى وجدنا أن العدو دمر الكتيبة الطبية بالكامل، رغم أن استهداف الكتائب الطبية فى الحروب ممنوع دوليًا، لكن استقبلنى أحد أطباء الكتيبة الناجين، رغم زحام الجرحى، الذى كان يتولى أمرهم، وداوى الجرح وربطه، ثم مكثت فى السويس لمدة ٢٢ يومًا تحت الحصار، وبعدها ذهبت إلى مستشفى البطل، ومنه إلى مستشفى المعادى العسكرى لاستكمال العلاج.
■ ما سر تلقيبك من قبل الرئيس السادات بـ«قاهر خط بارليف»؟
- كنت من ضمن المصابين الذين ستتم معالجتهم فى دولة يوغوسلافيا، ووقتها قام الرئيس السادات والدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام، وحافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومى، بزيارة المصابين وتكريمهم، وقال عنى الرئيس السادات إننى «قاهر خط بارليف»، وقد تم تكريمى أيضًا على يد المشير محمد حسين طنطاوى بعد ٣٠ عامًا من الحرب.
ومن الصحيح القول بأن الجنود المصريين استطاعوا قهر إسرائيل، وتم تدمير الساتر الترابى وخط بارليف الذى كلفهم مليارات الدولارات وسنوات لإنشائه، ولكن هدمه وتدميره لم يستغرق مدة تتجاوز الـ٣ ساعات.