محمد صالح البحر: يجب أن تتسق صناعة النشر مع صناعة العقل
ما بين أول الكتب المنشورة وصولا لأحدثها، هناك حكايات عن رحلات الكتاب والمبدعين مع دور النشر، هناك صعوبات ومعوقات مع نشر العمل الأول، وهناك أيضا المشكلات المتكررة والمتشابهة بين المبدعين ودور النشر، سواء فيما يخص تكلفة الكتاب، أو توزيعه، والعقود المبرمة بين الطرفين، أو حتى حقوق الملكية الفكرية وغيرها.
وفي هذا اللقاء يحدثنا الكاتب محمد صالح البحر عن تجربته مع عالم النشر. والبحر سبق وصدر له العديد من المؤلفات نذكر من بينها، رواية “حتي يجد الأسود من يحبه”، “نوافذ الضوء” مجموعة قصصية صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مطلع العام الجاري “غواية المكان”، التفاصيل الصغيرة لمدن الملائكة كتاب سردي، “قسوة الآلهة” مجموعة قصصية، “حقيبة الرسول”، رواية “موت وردة”، رواية “نص مسافة” رواية وغير ذلك.
ــ كيف تري أحوال النشر والناشرين؟
بغض النظر عن اختلاف ظروف النشر من كاتب لآخر، ومن دار نشر إلى أخرى، وتراوحها المستمر بين الايجابيات والسلبيات، بين المأمول والواقع الذي تعيشه، بين نظرة الفرح بظهور الكتاب ونظرة البؤس المختبئة عن المصير الذي ينتظره، يظل النشر في حد ذاته مأساة كبرى يعيشها الواقع الثقافي والإبداعي بمختلف أطرافه في مصر والعالم العربي، ويرعى فيها الجميع تحت وطأة بيئة مقفرة وقاسية وشديدة الظمأ، مأساة لا تكتفي بتهديد جميع الأطراف بالمحو والفناء، بل تُهدد بشكل مباشر بفناء الثقافة والإبداع العربي ذاته في مرور الوقت إن استمرت الحال على ما هي عليه.
ربما يبدو استمرار وكثرة المؤسسات دليلا على ثراء عملية النشر، والصخب الذي يدوي لصوت المزمار المصاحب لميلاد كل كتاب دليلا على الرضا، لكن النظرة العميقة ستُخبرك بحجم المأساة عند جميع أطرافها، ستُخبرك أن جميعهم خاسرون في نهاية الأمر، لأنهم ببساطة حادوا عن مهمتهم الأساسية، وصارتْ غايتهم الأولى والأهم هي التخلص من الكتاب بدلا من صناعته وخلقه، فالناشر مذبوح على مقصلة المكسب، وبمجرد أن يُغطي الكتاب تكاليف طباعته، أو يغطيها ويزيد، يتم تجاوزه إلى الكتاب التالي، والكاتب مذبوح على مقصلة النشر، والكتاب الذي تتم طباعته يتم تجاوزه فورا إلى كتاب جديد، أما الجمهور فمذبوح دائما على مقصلة النهم، وغايته الاستهلاك الدائم والتجاوز الأسرع لكل كتاب يبدو على السطح، هكذا تبدو ساحة النشر وكأنها غابة مستعرة على الفتك، يبحث الجميع فيها عما يسد الرمق، ولو لعدة خطوات قادمة، في دائرة لا تنتهي من السعي المحموم، ولا أحد ينتبه لصرخات الكتاب، أو أنينه المفرط، كأنه الوحيد من أطراف عملية النشر الذي يعلم المصير الذي ينتظره، هو فقط منْ يعرف أنه يولد لكي يسير إلى الموت، وأنه لا ينال من وجوده القصير هذا، سوى فرحة الميلاد، التي توفرها له بالكاد نسخه القليلة، وصورة غلافه على الميديا، ومتابعته الإخبارية والنقدية المحدودة عددا ووقتا، ثم سرعان ما يأتي النسيان ليزرع جذوره من حوله، حتى الموت.
لقد أصابتني الفاجعة حقا وأنا أرى أديبا كبيرا يفعل المستحيل، وهو يبحث عن نسخة واحدة فقط من كتابه الأول، المطبوع منذ ثلاثين سنة، ليتقدم به إلى جائزة التفوق.
ــ ما الصعوبات التي صادفتك في طريق نشر كتابك الأول؟
أستطيع الادعاء حقا بأنني مبدع محظوظ في نشر كل كتاب لي حتى الآن، فنشر الكتاب الأول الذي كان يمثل حلما يُشبه المستحيل، في عينيّ كل مبدع في حقبة التسعينيات، أتى إليّ على طبق من ذهب، فقد كان المرحوم فؤاد قنديل رئيسا لسلسة إبداعات بهيئة قصور الثقافة، وكان في زيارة عمل بمدينة قنا، وقضى أمسيته في زيارة قصر ثقافة قنا، ليستريح من عناء يوم عمل طويل قبل أن يذهب إلى النوم بالفندق، وحتى اليوم لا أعرف، هل كان من الطبيعي أن يتفقد مبدع بحجمه مكتبة القصر الذي يزره، أم أحب المسؤول الكبير بالهيئة أن يرى كيف يقرأ الناس في هذا المكان البعيد، الذي أتى ليطمئن على سير العمل به، المهم أنه ترك المدير العام في مكتبه ودخل إلى المكتبة، وبدأ يتطلع إلى نظامها، شكلها العام، ترتيبها، نوعية الكتب بها، طبيعة الأفراد الذين يتجولون في مساحتها الضيقة، وعندما بدأ في تبادل الحديث معهم فوجئ بأمين المكتبة يطالبه بالهدوء، فالتزم الرجل بأدب جم، وبعد فترة أتى ليجلس إلى جواري، في الحقيقة لم أكن أعرف شكله، ولم أعتقد ـ كموظف جديد بالقصر ـ أن المسؤول الكبير الذي أتى من القاهرة ليفتش علينا، سيدخل إلى المكتبة وحيدا بلا زَفَّة يتقدمها المدير العام، وتدق حاشيته طبولها، فتحدثت مع الرجل بأريحية مطلقة ـ باعتباره واحدا من رواد المكتبة ـ عرف خلالها أنني أكتب القصة القصيرة، واضطلع على نماذج منها كنت أحملها في شنطتي الخاصة ـ في تسعينيات القرن الماضي كان لكل أديب حقيبة يحمل بضاعته فيها أينما ذهب، بالإضافة إلى الكتاب الذي يقرأه الآن، والورق الأبيض والأقلام استعدادا لنزول الوحي في أي زمان ومكان ـ بعدها سألني إن كنت أكملت كتابة مجموعة كاملة أم لا؟! فأخرجت له نسخة مكعبة من "أزمنة الآخرين" التي انتهيت من ترتيبها، ولا أعرف كيف أو أين سأطبعها؟! حينها فقط عَرَّفني الرجل بنفسه، وأنه مصرٌ على أخذ هذه النسخة، وطباعتها في سلسلة إبداعات، وحتى بعدما أخذت المجموعة طريقها إلى النشر، وكان لزاما عليّ أن أذهب إلى القاهرة لمراجعتها، جعل الأديب فؤاد مرسي سكرتير تحرير السلسة آنذاك، يراجعها معي على التليفون ليوفر عليّ مشقة ومصاريف السفر.
ــ ما المشاكل التي واجهتها بخصوص حقوق النشر والملكية الفكرية؟
في الحقيقة لم أواجه مثل هذه المشكلات، فالمؤسسات الحكومية تعطينا مكافأة النشر مقابل التنازل عن الكتاب، ودور النشر الخاصة عادة لا توقع العقود مع الكُتاب، وحتى إن حدث هذا فمن المستحيل أن تعرف حجم مبيعاتها لتطالب بحقك منه، فالغالبية تقريبا يبيعون بلا فواتير للمستهلك، حتى الآن لم آخذ نسبة من مبيعات أي كتاب لي، إلا عن روايتي "نصف مسافة" التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية.
ــ كيف تواجه هذه المشكلات مع الناشر؟ وما أصعب موقف تعرضت له؟
لم أتعرض لأي موقف صعب مع أي دار نشر تعاملت معها، كل منْ تعاملت معهم حتى الآن راقون ومحترمون، تربطني بهم صداقة مباشرة، أو نتواصل عبر أصدقاء مشتركين، وفي العموم أنا أعرف يقينا أن أي ناشر سيكون لطيفا جدا معك، طالما أنك لا تطالبه بشيء.
ــ هل سبق ووصلت خلافاتك مع ناشر ما إلى ساحات المحاكم؟
حتى الآن لا، ولا أكاد أعرف مبررا واضحا لذلك، عندما أقرأ أو أسمع عن مثل هذه المشكلات، فلا شيء ضخم في عملية النشر عندنا، لا شيء يُغري لكي تصل الأمور إلى هذه الدرجة من المطالبة بالحقوق المالية، فما يتم نشره من نسخ لغالبية الكتب الإبداعية عندنا، من المستحيل أن يُشَكِّل دخلا مهما لأي كاتب، فما الذي يُغري؟!.
ــ هل قمت يوما بسداد كلفة نشر كتاب لك؟
لا، ولن يحدث ذلك أبدا، حتى وإن توقفتُ عن الطباعة، وربما لذلك لا أطالب أحدا بشيء، أكتفي بخروج كتابي بشكل جيد من مكان مهم، ولا أُبالي، حتى ما حصلت عليه من الدار المصرية اللبنانية هم منْ أعطوه طواعية لي عند توقيع العقد، وعند انتهاء الطبعة الأولى، وكما أخبرتكِ من قبل، أنا محظوظ في نشر كل كتبي حتى الآن، وكلما أُغلق مكان في وجهي فُتح مكانين وثلاثة بدلا منه.
ـــ ما الذي حلمت به لكتاب من كتبك ولم يتحقق، وتأمل أن تتداركه مع مؤلف جديد؟
في الحقيقة لقد حلمت بوجود أكبر وأفضل لروايتي "حتى يجد الأسود منْ يُحبه"، أعتقد أنها رواية مهمة فنيا وزمنيا، وتستحق الكثير مما لم يتحقق لها، ولا أعرف لماذا لم يحدث ذلك؟! ولا أعرف كيف يمكنني أن أتدارك ذلك فيما سأكتب من بعد؟! فأنا كمبدع أفعل كل ما عليّ، وربما أكثر، ولا أكف أو أمل من تطوير ذاتي، لكنني مؤمن جدا أن التحقق أمر يبقى دائما خارج العملية الإبداعية، سواء للمبدع أو كتابه، أمر يخضع لآليات المجتمع وسياقاته، ولا دخل للإبداع فيه.
ــ في رأيك صناعة النشر في تقدم أم تراجع؟
من الرؤية الأولى، التي استمعتُ فيها إلى صرخات الكتاب، وأنيه المشرف على الفناء، أستطيع أن أُخبركِ بأن صناعة النشر في تراجع مستمر، الكتب عندنا تُطبع لتموت، لذلك يجب أن نضع جانبا ثقافة الاستهلاك السريع، وأن تتسق صناعة النشر عندنا مع صناعة العقل، ولا أعني أن تتولى الدولة ذلك باعتبارها راسم السياسات، ومحدد الطريق، فتجارب الدول الاشتراكية أوضح دليل على الخسارة الثقافية والإبداعية، لكنني أعني أنه عندما تقوم على صناعة الكتب عندنا مؤسسات ضخمة بحق، وتعمل بآليات سوق تراعي ذائقة القارئ، وتعمل دائما على رفعه إليها، سنكون وقتها قد عرفنا الطريق إلى الصناعة الحقيقية.
إن كل ما نحتاج إليه هو الضمير، الضمير الذي يؤهلنا إلى خلق مجتمع واعٍ، يتقدم فيه الكتاب على كل الأشياء بخطوة، ويرتقي فيه الإنسان من ركن المستقبِل السلبي، إلى مقام المشارك بالنصيب الضخم، لأنه ببساطة هو منْ يُشكل رأس مال السوق، ويُحدد اتجاهاته.