صراع القيادة والنفوذ فى الشمال السورى
منذ الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضى وحالة الاضطرابات وأعمال الاشتباك المسلح تتنامى فى محافظة «دير الزور» شرقى الشمال السورى، الظاهر على السطح أن طرفى الصراع هما قوات سوريا الديمقراطية «قسد» الممثلة للمكون ذى الأغلبية الكردية، ومقاتلون محليون من العرب أطلق عليهم مسمى «مقاتلو العشائر العربية». الرواية الكردية ترجع أسباب تلك الاشتباكات المفاجئة إلى قرار إيقاف قوات سوريا الديمقراطية للمدعو «أحمد خبيل» المعروف بأبوخولة، الذى يشغل منصب قائد «مجلس دير الزور العسكرى» التابع لها. بعد ذلك قامت الإدارة الكردية بعزله متهمة إياه بالتورط فى جرائم جنائية، والمشاركة وتسهيل الاتجار بالمخدرات وأعمال التهريب، مما جعلها تضع تلك المخالفات كمسبب لسوء إدارة الوضع الأمنى، فضلًا عن التثبت من معلومات استخباراتية تفيد تواصل أحمد خبيل مع النظام.
أثار هذا التوقيف لقائد المجلس ومعه ٥ من القياديين غضب مجموعات من المقاتلين المحليين، المقربين من مجلس دير الزور العسكرى الذى يعد الفصيل العربى الأكبر داخل هيكل إدارة المنطقة، واتحد فى رد الفعل كل من مقاتلى العشائر العربية ومقاتلى المجلس، فما لبثوا أن نفذوا هجمات ضد قوات سوريا الديمقراطية، تطورت لاحقًا إلى اشتباكات عنيفة ومفتوحة فى العديد من القرى والبلدات بدير الزور وجوارها. فما أطلق عليه مسمى «العشائر العربية» لديها مسببات أخرى لاندلاع تلك الاشتباكات، أبرزها شعورها بالظلم جراء حرمانها من عوائد «حقل العمر» أكبر منتج للنفط بسوريا، وأيضًا الغاز المستخرج من «حقل كونكو» اللذين تسيطر عليهما الإدارة الكردية. وهناك أيضًا حالة احتقان متنامية فى الأوساط العربية خاصة باستشعارها أن التحالف الوطيد بين القوات الأمريكية الموجودة بالمنطقة مع قوات سوريا الديمقراطية، جاء فى الآونة الأخيرة على حساب مصالح المكون العربى، مما أجج الصراع بينها وبين الإدارة الكردية. وقد أجمع مراقبون محليون أن هناك بالفعل حالة افتقاد للحكمة والتوازن من الجانب الأمريكى فى التعاطى مع جميع مكونات الشمال السورى، من أجل إيجاد حلول واقعية تضمن إعطاء العرب حقوقهم الإدارية والثقافية.
الاشتباكات دارت فى مناطق الشمال بشكل عنيف، فى وسط عام يغلب عليه امتلاك جميع المكونات قدرات تسليحية ومقاتلين موالين منذ عام ٢٠١١، لذلك لم تستغرق الاضطرابات أيامًا حتى بلغت أعداد الضحايا ما يقارب «٩٠ قتيلًا» من مقاتلى الطرفين، فضلًا عن سقوط ما يتجاوز «٥٠ ضحية» من المدنيين. فالاشتباكات التى بدأت بدير الزور لاحقًا امتدت سريعًا إلى محافظتى «الحسكة» و«حلب»، وامتد التدمير ليشمل البنية التحتية الحيوية، مما تسبب فى تضرر نحو مستشفيين وثلاثة مرافق لمعالجة المياه، وعدد يقدر بالعشرات من المنازل. فى هذه المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات تسيطر داخلها قوات سوريا الديمقراطية على ما نسبته ٢٥٪ من مجمل مساحة سوريا الجغرافية، وتشمل أجزاء واسعة من محافظة دير الزور والرقة والحسكة، وأجزاء من محافظة حلب. حيث جرت إزاحة قوات «قسد» من مواقع عديدة تسيطر عليها، ودفعتها للتمركز بنقاط أكثر تحصينًا بداخل البادية السورية بالقرب من قواعد قوات التحالف الدولى باتجاه مناطق الريف الغربى لدير الزور.
التنافس القائم بين قوات «قسد» الكردية والمكون العربى المتمثل فى المجلس العسكرى، احتدم مؤخرًا لعدة أسباب لها علاقة بترتيبات مستقبل تلك المنطقة، لتأتى عملية إيقاف قيادات المجلس بمثابة الشرارة التى فجرت ما كان يدور تحت السطح منذ بداية العام الجارى. قبل ذلك أطلقت قوات «قسد» ما سُمى حينها بعملية «تعزيز الأمن» بهدف معلن، هو القضاء على بقايا خلايا تنظيم «داعش» بعد رصد استعادة بعض عناصره لتواجدهم فى أكثر من منطقة بالشمال السورى للتخطيط؛ للقيام ببعض العمليات النوعية التى تستهدف قوة الإدارة الكردية وبالأخص عناصر قوات سوريا الديمقراطية. اعتبرت العشائر عملية تعزيز الأمن مجرد غطاء لإجراءات أمنية تهدف لقمع سكان تلك المناطق، خاصة مع استخدام «قسد» للأسلحة الثقيلة فى قصف مناطق بالريف الشمالى لدير الزور، مما أصاب عشرات من المدنيين، ونزع عن تلك العملية صفتها الأمنية التى كان يتوقع أن تتم بشكل استخباراتى نوعى، بهدف اصطياد عناصر تنظيم «داعش» ومن يقدمون لهم الدعم. هذا الأداء العنيف العشوائى من قوات «قسد» أعاد للأذهان مشروعًا تعمل عليه الإدارة الكردية منذ بداية العام، وأطلقت عليه «إقليم شمال وشرق سوريا». والمشروع يتضمن تأسيس هيكلة إدارية جديدة لمناطق سيطرة «قسد»، تطور من عملية الإدارة الذاتية التى يمارسها المكون الكردى إلى وضع نهائى مستقر، ضمن إقليم واحد وموحد يمتد على مساحات من الأراضى الواقعة بمحافظات الشمال السورى الثلاث، وغالبيتها تقع شرق الفرات.
لذلك بدا أن الرغبة الكردية فى تفكيك المجلس العسكرى لدير الزور، إحدى خطوات طريق الوصول لتحقيق الهدف الذى حصل على موافقة أمريكية غير مكتملة حتى الآن على الأقل. فمن الأسباب التى عجّلت بعملية استهداف المجلس العسكرى؛ أن هناك طموحًا لدى قيادة المجلس خاصة «أحمد خبيل» للخروج من عباءة «قسد»، والتواصل بشكل مباشر مع قوات التحالف الدولى لتعزيز شكل من استقلالية إدارة «دير الزور»، باعتبار خبيل هو زعيم عشيرة «البكير» التابعة لقبيلة «العكيدات» أكبر قبائل دير الزور العربية. وقد ظهر دور فاعل لهذه القبيلة فى احتدام الاشتباكات الأخيرة، مما أسهم فى الاتساع الكبير لرقعة المواجهات بعد إذاعة مجموعة بيانات صوتية استحثت فيها الأهالى على حمل السلاح فى مواجهة قوات «قسد». هذا الشحن القبائلى استتبعه أكثر من حراك شعبى بمناطق عدة فى مواجهة الإدارة الكردية، مصحوبًا بحالات قدرت بالمئات ممن ألقوا السلاح وأعلنوا عن انسحابهم من العمل تحت راية «قسد» من المنتمين للعشائر العربية.
حاول النظام السورى وبعض من الميليشيات الإيرانية الموالية له، تأجيج هذا الخلاف ومحاولة دعمه بطرق عدة، باعتباره موجهًا ضد الوجود الأمريكى والحليف الكردى، لكنهما لم ينجحا فى ذلك بصورة فعالة، فهناك سابق من الأحداث تجعل العشائر العربية بالشمال السورى تأخذ خطوات بعيدة للخلف عن التعاون معهما، لتظل كلمة الفصل التى يمكنها أن تضع ترتيبات تعيد الهدوء لتلك المنطقة، بيد القوات الأمريكية المتواجدة فى قلب هذه الأحداث، فى حال أرادت أن تعيد قدرًا من التوازنات التى اختلت كثيرًا منذ العام الماضى وحتى الآن، والخلل قد يطال تلك القدرة الأمريكية ذاتها فى حال تنامى واتسع لأبعد من قدرات الاحتواء المرضى لجميع الأطراف.