"تقنيات السرد القصصي عند نجيب محفوظ".. قليل من النقد وكثير من الحشو
بينما يميل كثير من نُقاد الأدب للاتفاق على أن الكتابات الأخيرة لنجيب محفوظ ولا سيما الأعمال القصصية لم تنل حظها من الاهتمام النقدي المطلوب، فإن كتاب إيهاب بديوي "تقنيات السرد القصصي عند نجيب محفوظ"، الصادر هذا العام عن دار "المحرر"، يبدو وكأنه سيضطلع بمهمة سد فجوة بحثية أو على الأقل سيشارك في سدها، غير أنه لم يتعد كونه مُلخصًا مدرسيًا حول أعمال محفوظ القصصية.
لم يبتعد الكتاب فقط عن الضبط المنهجي؛ إذ يشير عنوانه إلى أن ثمة دراسة لقصص محفوظ القصيرة من منظور المنهج البنيوي، وهو ما لم يتحقق، ولكنه أيضًا أغرق في تقديم ملخصات حول عدد القصص وأسماء الشخصيات وموضوعوها بدلًا من التركيز عن تحليلها، فضلًا عن حشو الكتاب بما ليس له صلة بهدفه المفترض.
يحتشد ما يقرب من نصف الكتاب بما يمكن الاستغناء عنه بلا أي تأثير على موضوعه، إذ ينشر المؤلف قصة مُبكرة لمحفوظ في بداياته لم تكن منشورة بعنوان "ثمن الضعف" كما هي بدون تعليق نقدي مهم، على الرغم من أن القصة قد نُشرت في كتاب حمل عنوان "قصص نجيب محفوظ التي لم تنشر"، والذي ضمّ أربعين قصة أخرى لم تكن قد نشرت من قبل، ومن ثم فمن غير المفهوم إعادة نشرها في كتاب من المفترض أن يكون نقديًا تحليليًا.
ليست القصة هذه فقط هي المنشورة بلا داع في الكتاب، بل إن المؤلف يدفع بقصة من تأليفه يسرد فيها حوارًا متخيلًا بينه وبين نجيب محفوظ أيضًا لا صلة لها بموضوع الكتاب، ولا يكتفي بذلك ولكنه يضع تحت عنوان "بيني وبين الأستاذ.. قضية السرقات الأدبية واتهامات موجهة للأستاذ" مقالًا موجزًا لا هدف له ولا علاقة له بالكتاب، إذ يسرد فيه حديث أجراه على موقع التواصل الاجتماعي مع أحد الباحثين الذي يدعي أن نصف أعمال الأستاذ منقولة من أعمال غربية وعالمية ومقارنته لروايتين لنجيب محفوظ بروايتين أمريكيتين ورده على ذلك، ولم يكن المقال له أي صلة بقصص محفوظ بل إنه لا يهدف سوى لحشد المزيد من الصفحات بلا طائل.
علاوة على ذلك، يضم المؤلف دراسة مطولة عن القصة القصيرة جدا بالكتاب، وهي دراسة تستهدف جمع المقولات عن مفهوم القصة القصة وتاريخها والموقف منها وعلاقتها بالأجناس الأدبية، وهي معلومات كان جلها غير مفيد في التعاطي التحليلي مع هذا الفن عند نجيب محفوظ.
فضلًا عن ذلك، ففي الفصل الخامس من الكتاب الذي يحمل عنوان "تقنيات كتابة القصة عند نجيب محفوظ" لا نقرأ سوى إعادة نشر لحوار أجرته صحيفة الأهرام مع الكاتب والمحلل النفسي يحيى الرخاوي عن نجيب محفوظ وشخصياته، ولم يكتف المؤلف بوضع الحوار تحت عنوان مضلل وإنما أتبعه بعدد من الصفحات توضح رؤية الرخاوي لأهم شخصيات روايات محفوظ، وكل ذلك لا يفيد موضوع الكتاب بشيء يُذكر أيضًا.
فقدان المنهجية
على الرغم من أنه ليس مطلوبًا من كل مؤلف أن يتبع قواعد الدرس الأكاديمي المنهجي إن أراد الكتابة عن أعمال أدبية، فكثير من القراءات المهمة التي قُدمت عن أعمال نجيب محفوظ لم تكن لأكاديميين وربما لم تتبع منهجًا نقديًا بحذافيره، لكن مؤلف هذا الكتاب اعتمد على عنوان يُحيل مباشرة إلى منهجية بعينها، ولم يطرقها سوى بصفحات الكتاب الأخيرة، التي لم تتجاوز الثلاثين صفحة.
باستثناء هذه الصفحات الأخيرة، التي يبدو وكأنها دراسة قد بُني حولها كتاب، فقد غلبت الملخصات التي تركز على سرد موضوع القصة بل إنه في حديثه عن قصة "رأيت فيما يرى النائم"، وكتاب "أحلام فترة النقاهة"، اكتفى بنشر عدد من الأحلام كما هي بدون تحليل يذكر، بينما بدت الكتابات الأخرى عن بعض القصص أشبه بمراجعات موجزة ومبتورة أحيانًا تصلح للنشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
"الرسائل الصوفية في أدب نجيب محفوظ".. ومضات موجزة ينقصها التحرير
يكتسب موضوع كتاب "الرسائل الصوفية في أدب نجيب محفوظ" للكاتب أمل زكريا، والصادر هذا العام عن دار "اكتب"، أهميته من طرقه لمنطقة جوهرية في أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية، إذ تتدفق ملامح صوفية في أعماله بانسيابية تحتاج إلى بصيرة نقدية تلتقطها.
كان الصحافي محمد شعير قد نشر أوراقًا لنجيب محفوظ تكشف عن رؤيته للتصوف، ومدارجه من وجهة نظره، إذ يقول محفوظ في أوراقه: التصوف في مذهبي: لا عزلة ولا رهبنة، لكنها الحياة الحياة الحياة. أن تخوض غمار الحياة حاملًا الله في قلبك، و جاعلا منه دليلًا لكل فكر أو إحساس أو عمل".
هذه الرؤية يمكن أن تُرى مجسدة في أعمال محفوظ وعبر بعض شخصياته، مثل عمر الحمزاوي في رواية "الشحاذ" الذي لا تجعله العزلة عن البشر في راحة وإنما يُدعى إلى انخراط أكبر في الحياة ليظفر بمعناها الحق.
رؤية فلسفية
على الرغم من وجود بعض الإصدارات والبحوث التي تطرقت للملامح الصوفية عند نجيب محفوظ، فإن أبعادًا جديدة ما زالت قابلة للاستكشاف لا سيما حين تؤطر في سياق رؤية محفوظ الفلسفية الشاملة.
في هذا الكتاب، يحاول المؤلف في ومضات موجزة كشف التحولات التي شهدتها رؤية محفوظ الفكرية كما تجسدت في أعماله، وهي ومضات لأنها فقط تشير بصورة سريعة لمقصدها ولا تسعى لتحليل مفصل يُثبت وجهة النظر المطروحة، ومع ذلك تظل الإضاءات مهمة لا سيما حين ينتقل المؤلف إلى تحليل الرسائل الصوفية في "أصداء السيرة الذاتية" بربط كل قصة بومضة صوفية ذات صلة بها، وفي التعليق على بعض الأحلام من "أحلام فترة النقاهة" والتعليق عليها من منظور صوفي.
يخلص الكاتب إلى أن رؤية محفوظ الفلسفية كانت أكثر ميلًا إلى فكرة امتداد الوجود ما جعله رافضًا لفكرة العدم، فضلًا عن أنه قد تدرّج من الشك إلى العقل ثم الإيمان الصوفي المستمد من حياة القلب والبصيرة.
وفي تحليله لكتاب "أصداء السيرة الذاتية" قال المؤلف إن محفوظ في الأصداء رسم رؤية صوفية خالصة تفتح للإنسان منافذ الروح لتقودها إلى التحرر ثم البحث عن الوجود المحجوب ليحقق الإنسان أعلى درجات النقاء العقيدي وتحقيق البصيرة.
أخطاء إملائية وتحريرية
وعلى الرغم من أهمية موضوع الكتاب، فإن الكثير من الأخطاء الإملائية فضلًا عن انعدام التحرير أفقد فصول الكتاب تراتبيتها المنطقية ونزع عن الأفكار تتابعها المعقول ما جعل المقدمات النظرية تأتي في غير موضعها وبإسهاب لا يُفيد الطرح التحليلي، فضلًا عن أثر عدم التحديد الواضح لبعض المفاهيم الوجودية في إحداث بعض اللبس في الرؤى المطروحة.