الحوار الوطنى.. والعلمانية الغائبة!
منذ حوالي شهرين أرسلت للدكتور ضياء رشوان ورقة بعنوان الدستور والهوية الوطنية، بغية وضعها للنقاش على مائدة الحوار الوطني وتضمنت الورقة عددًا من النقاط أهمها:
١- إن ثقافة مصر مزيج بين الحضارات الفرعونية والهيلنية والرومانية والقبطية والإسلامية، وسكانها ينتمون إلى أعراق مختلفة سامية وحامية عربية وإفريقية، وأيضًا بها بعض الأعراق التي لا تشكل نسبة كبيرة من السكان، ومنها: الزنجية والتركية والبربرية والرومانية، وأعراق دول حوض البحر الأبيض المتوسط، لذا فإن هوية مصر ثرية بزخمها الثقافي والحضاري والديني، والتعددية سمة يتميز بها المصريون.
كما أن انتماء مصر الجغرافي متعدد، فمصر إفريقية وعربية وشرق أوسطية وتنتمي إلى دول حوض البحر الأبيض المتوسط، لذلك فإنه وسط كل هذه المعطيات الثقافية والحضارية والجغرافية والتاريخية يصبح الحديث عن هوية محددة لمصر من أصعب المسائل وأعقدها، هذا فضلًا عن أن مصر، وإن كانت تنتمي للأمة العربية، ولكنها تنتمي أيضًا للقارة الإفريقية.
٢- يعد الدستور بمثابة الوثيقة الأساسية للدولة، وهو أبوالقوانين داخلها، ومصطلح "دستور" يعني التأسيس أو البناء.
ويعد دستور ١٩٢٣ هو أول دستور مصري (١٩ أبريل ١٩٢٣)، وهو كما يقول بعض الخبراء القانونيين يعتبر من أعظم الدساتير التي واكبت نهضة مصر، وبقراءة دستور ١٩٢٣، يمكننا أن نضعه في مصاف دساتير القرن الحادي والعشرين الأوروبية نظراً لما تتضمنه مواده من حريات ومساواة ومحافظة على حقوق المصريين ففي المادة ١٢ نص دستور ٢٣ على أن "حرية الاعتقاد مطلقة"، دون أي حديث عن نظام عام وخلافه من العبارات الفضفاضة المطاطة النافية لما قبلها. وفي المادة ١٣ "تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد (والأديان هنا بصيغة الجمع وليس فقط الأديان السماوية الثلاثة)، حيث إن هناك مصريين لا دينيين، وهناك مصريين يدينون بديانات لا يعتبرها البعض سماوية.
٣- على الرغم من عظمة دستور ١٩٢٣ إلا أن هناك بعض القوى المصرية اعترضت على بعض نصوصه، وجاءت الاعتراضات منذ قرن من الزمان حول مادة دين الدولة ولغتها وهي كانت المادة رقم ١٤٩، وكان طه حسين فى مقدمة الرافضين، وامتلك شجاعة الكتابة، فقال إنّ النص على دين للدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد.
واللافت للنظر أنّ طه حسين لم يكن لوحده، ولكن كان أبرز من كتبوا ضد اللجنة التى خضعتْ لرأى وضغوط الأصوليين محمود عزمى، فبينما كانت مواد الدستور مجرد (مشروع) أى قبل أن يُعتمد الدستور رسميًا للعمل بمقتضاه، كتب مقالًا بعنوان (العقيدة الدينية فى لجنة الدستور) قال فيه «إنّ ذلك النص المُـقرر للدولة دينًا رسميًا هو ذلك الذى يريد أنْ يستغله أصحاب الآراء العتيقة.. وهو الذى سيجر على البلاد ارتباكــًـا قد ينقلب إلى شر مستطير».
٤- ونحن نتطلع لبناء جمهورية جديدة، فلا بديل عن أن يحيا نحن المصريين في ظل نظام علماني"بفتح العين"، فالدستور الحالي به بعض المواد الدينية وهذه المواد تعرقل مسيرة العلمانية.
ومن المؤسف أن يُروّج الأصوليون دائمًا: إن العَلمانية تتعارض مع الدين، والسؤال الذى يفرض نفسه هنا: هل العَلمانية حقًا تتعارض مع الدين؟ وهل العَلمانية تعنى الكفر والإلحاد؟ إن العَلمانية ليست الإلحاد لسبب بسيط، وهو أن العَلمانية ليست دينًا أو عقيدة، ولكنها آلية ومنهج تعامل دولة مع السياسة والاقتصاد والحكم والتعليم. العَلمانية ليست ضد الدين، بل هى ضد تحكم وتدخل رجال الدين فى الحكم، ولا توجد حماية حقيقية للأديان إلا فى الدول العلمانية. فالدولة
الدينية
تحمي دينًا واحدًا أما الدولة العَلمانية فهى تحمى كل الأديان وتقف على مسافة واحدة منها. العَلمانية ليست ضد الدين ولا تحتقره. ولكنها ضد من يحتكره، ويدعى أن لديه التفسير الوحيد والتوكيل الحصرى».
ومن هنا جاء تعريف الفيلسوف المصرى المعاصر الدكتور مراد وهبة للعَلمانية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى، وليس بما هو مطلق، فالعَلمانية هى: أسلوب فى التفكير قبل أن تكون أسلوبًا فى السياسة، ألم يَحِن الوقت لتحرير مصطلح «العَلمانية» من التشويه المتعمد الذى ألحقه به الأصوليون والمتطرفون؟.. إن العَلمانية لا تعنى الإلحاد، ولكنها تعنى الإيمان بالحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان.
فلا وجود لدولة وطنية دون عَلمانية، ولا حرية دون عَلمانية، ولا ديمقراطية حقيقية دون عَلمانية، ولا حقوق إنسان دون عَلمانية، ولا حداثة دون عَلمانية، ولا تقدم دون عَلمانية، ولا حل للتوترات الدينية فى شرقنا ومصرنا إلا بالعلمانية.
والدولة شخصية اعتبارية لا دين لها، فهي لا تصلي ولا تصوم ولا تتصدق، وإذا أردنا تفعيل الهوية المصرية وقبول التنوع والتعددية داخل الهوية المصرية فلا بديل عن حذف المواد ذات الطابع الديني من نصوص الدستور، لننعم بدولة وطنية في ظل مناخ علماني.