الإنكار مش هـ يفيدك
شرط أم كلثوم لـ العودة في "فات الميعاد"، هو نفسه شرط اليمامة لـ الصلح مع أولاد مُرة: دي عايزة "قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا داق حرمان"، ودي عايزة "أبي لا مزيد، أريد أبي عند بوابة القصر فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد".
الشرط دا أحيانا يبدو تعجيزي في إطار رفض التسوية على أي نحو، وأحيانا كمان يبدو تهكمي، في إطار توضيح لا معقولية طلب التسوية من أساسه، إنما بـ النسبة ليهو لا تعجيزي ولا تهكمي، المشكلة إنه طلب حقيقي جدا!
خليني الأول أقول لـ حضرتك إنه واحدة من أقسى الجمل اللي صاغتها البشرية هي جملة "اللي حصل حصل". جملة مقتضبة خالية من أي زوائد أو حشو، اقتضابها دا بـ يخليها صارمة نهائية باتة مغلقة، وهي جملة اسمية تتكون من مبتدأ وخبر.
الجمل الاسمية دورها الإخبار بـ حقائق مُسندة، المسند إليه هنا هو "اللي حصل"، والحقيقة المسندة هي "حصل". طيب، بـ تخبرنا ليه بـ إنه اللي حصل، حصل. هو ممكن يكون "ما حصلش"؟
آه، ممكن جدا، ممكن في ذهن كتير من الناس لما يرفضوا تقبل الأمر، مش يرفضوا نتايجه وما يترتب عليه، لأ، يرفضوه هو ذاته.
مثلا شخص عرف إنه مريض بـ مرض خطير، فـ يرفض تقبل دا، وما يصدقش أي حاجة تأكد له الموضوع، ويتصرف كما لو كان غير مصاب إطلاقا، ويشتم الأطباء، وما ياخدش العلاج، ويتجنب أي حاجة تؤدي إلى "إخباره" بـ الواقع، فـ هنا إنت محتاج تقول له: اللي حصل حصل، بـ نفس برود الجملة وتلامتها.
يمكن الحالة دي معروفة بـ اسم "الإنكار"، لكن كتير من الحالات النفسية مش بـ تبقى زي النموذج المشهور عنها، أو الصورة الذهنية المرتبطة بيها، الاكتئاب مثلا، مش شرط صاحبه/ صاحبته يبقى ساهم ومش مركز، وحزين في نفسه كدا، ومهمل في منظره وإلخ إلخ. لا، كتير جدا بـ يبقى عكس كدا تماما، بشوش ويبدو منطلقا ومتفائلا بـ الحياة.
كذلك اللي عنده إنكار، مش لازم خالص يبقى هيستيري ولا منطقي، وصوته بـ يعلى لما تيجي سيرة الموضوع اللي بـ ينكره، ويتهرب منه. أبسليوتلي، ممكن جدا يناقش الموضوع بـ هدوء ومنطقية وعقلانية، ويحسسك إنه دارس كل أبعاده، بل يتفنن في ترتيب الأمور على نحو يقول إنه اللي حصل ما حصلش، أو إنه، ودا الأخطر، ممكن نرجع لـ زمن ما قبل حدوثه.
الشكل دا في تقديري أخطر أشكال الإنكار، لـ إن الشخص بـ يبقى محبوس في لحظة فاتت، وبـ يتعامل مع الحاضر بـ معطيات اللحظة الفايتة دي، رغم إنها فاتت، وخلينا نسأل:
لما هو الزمن بـ ينسي فرح وحزن ياما، إيه لزوم المناهدة دي طول النص؟ ولما هي ستاير النسيان نزلت "بقى لها زمان" إزاي بـ نتفنن في وصف قسوة التنهيد والوحدة والتسهيد، وإزاي "لسه ماهمش بعيد"؟
لا، حضرتك! إنتي عايشة دنيا "ما قبل" الجرح والغدر والذي منه، لـ ذلك أسأتي فهم الطلب. واعتبرتيه إنه "نرجع زي زمان"، مع إنه الطلب غالبا مش بـ يكون الرجوع لـ حالة ماضية، إنما بناء حالة جديدة، أي استئناف العلاقة وفقا لـ المعطيات الجديدة، و"تجاوز" اللي حصل.
اللي حصل دا إن كان له آثار، فـ من الممكن العمل من جديد لـ إزالة هذه الآثار والتوابع واللواحق. لكنك مش بـ تعتبريها آثار ولا توابع ولا لواحق، لـ إنه "زمان" اللي بـ تتكلمي عنه دا، إنتي لسه عايشة فيه.
محدش طلب من اليمامة التخلي عن حزنها على كليب، أو نسيانه، أو حتى عدم عقاب الجناة، إنما الطلب هو النظر لـ معطيات اللحظة الراهنة، واعتبار مأساة الجليلة، وحقن دماء كتير هـ تسيل في عركة "بـ لا هدف".
لكن اليمامة عايشة في لحظة ما كان أبوها عايش، ومش مستعدة إطلاقا لـ أي حاجة تخليها "تتجاوز" اللحظة دي، لازم تفضل اللحظة حاضرة، ويفضل العالم كله يدور في فلكها،
"إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم لميقاتها
والطيور لأصواتها
والرمال لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة"
اللافت هنا، إنه حالة الإنكار دي يصاحبها حاجتين: الأولى، الشعور بـ استحالة تجاوز اللحظة، والاندهاش من القادرين على تجاوزها، مش بـ اعتبار التجاوز أمر مدان أخلاقيا أو إنسانيا، لا، بـ اعتباره غير ممكن أساسا:
تعتب عليّ ليه
(أنا بـ إيديّ إيه؟)
الحاجة التانية، هو قلب الطاولة. يعني مش الشخص المنكر دا هو اللي بـ يطلب المستحيل، لا، الطرف التاني هو اللي بـ يطلب أمر غير عادل، وكمان مش الطرف المنكر هو الذي يتخذ موقفا في الفراغ، لا، دا الطرف التاني هو اللي بـ يبحث عن أمور غير مجدية، فـ المنكر هو "صاحب الحق"، وعدم التعاطف معه هو تخلي عن الإنسانية.
(ولا أطلب المستحيل، ولكنه العدل)
(وتفيد بـ إيه يا ندم، وتعمل إيه يا عتاب؟)
الظريف في الأمر إنه المنكر مبسوط بـ إنكاره، أو على الأقل مرتاح، ومن يريد التجاوز هو اللي تعبان، إنما عادة الطرف الأول هو اللي بـ يكسب التعاطف، وهو اللي بـ تتعمل على لسانه أغاني وقصايد يلوكها منكرون آخرون، يمكن علشان كدا الحياة مش بـ تتحرك، يمكن!