جبهة القرم.. الاشتعال مجددًا ومهددات اتفاقية الحبوب!
أسفر الهجوم الأوكرانى على جسر «مضيق كيرتش» الذى وقع مؤخرًا فى ١٧ يوليو، إلى كثير من الاضطرابات على الجانب الروسى، بالخصوص المتعلقة باللوجستيات العسكرية التى تنشط فى نقل الحركة بين شبه جزيرة القرم ومواقع مهمة على خطوط التماس فى ماريوبول وخيرسون، امتدادًا إلى الأراضى الروسية. الجسر يمتد لمسافة ١٨ كلم ويتألف من قسمين أحدهما طريق مزدوج لاستخدام السيارات والآليات، والآخر للسكك الحديدية، دشنه الرئيس فلاديمير بوتين فى العام ٢٠١٨ لربط روسيا بشبه الجزيرة بعد ضمها عام ٢٠١٤. ويمثل الجسر الآن خط الإمداد الرئيسى للقوات الروسية فى أوكرانيا. أدى الهجوم الأخير إلى تضرر الجزء المخصص للطرق وتعليق الحركة عليه لساعات. هذا الهجوم الثانى الذى يتعرض له الجسر الضخم فى غضون شهور، ففى أكتوبر العام الماضى أدى انفجار ضخم ناتج عن شاحنة مفخخة إلى تدمير جزء من الجسر، وخلف حينها مقتل ثلاثة أشخاص.
المصادر الأوكرانية أكدت أن الاستخبارات العسكرية وسلاح البحرية اشتركا فى تنفيذ عملية الهجوم بواسطة «مسيرات بحرية» انتحارية، ما استوجب ردًا روسيًا لم يتأخر سوى أيام قليلة حتى استهدف مناطق جديدة، فقد تعرضت منطقة أوديسا المدينة والميناء وبعض المناطق المهمة حولها، إلى ضربات روسية نوعية أسفرت عن تضرر كبير لمحطات الحبوب والنفط والدبابات، كما أفصحت السلطات الأوكرانية عن أن معدات التحميل فى أحد الموانئ بمنطقة أوديسا تعرضت هى الأخرى لأضرار شاملة. قيادة عمليات الجنوب الأوكرانية تمكنت من تحديد نوع السلاح الروسى المستخدم المتمثل فى صواريخ «أونيكس» و«كاليبر»، وقد تسبب ذلك، فضلًا عن التدمير الكبير، فى اندلاع حرائق ضخمة فى أكثر من موقع. فى اليوم التالى استمر الهجوم الانتقامى؛ ودخل على الخط استخدام روسى واسع للمسيرات المتفجرة من طراز «شاهد» الإيرانية، تمكنت المضادات الأرضية الأوكرانية من إسقاط عدد كبير منها، لكن اللافت هذه المرة أن شظايا كل من الصواريخ والمسيرات المتساقطة تسببت فى تدمير أجزاء من البنية التحتية للميناء، فضلًا عن عشرات المنازل بمنطقة سكنية فى محيط أوديسا.
اشتعال جبهة القرم مجددًا ربما يعكس حالة الانسداد على خطوط جبهات الهجوم الأوكرانى المضاد، الذى تقابله محاولات روسية لانتزاع مكاسب وسط الإخفاقات الأوكرانية التى دللت هى الأخرى على عدم صلابة وجاهزية الهجوم. فما زالت الأخيرة تواصل عمليات الهجوم المضاد حول مدينة «باخموت»، وقد تقدمت شمالها اعتبارًا من ١٨ يوليو إلا أنها لم تحقق سوى اختراق محدود، قدر بنحو ٣ كلم شمال غرب باخموت. حاول نائب وزير الدفاع الأوكرانى أن يضفى أهمية تكتيكية على هذا التحرك، بالتأكيد على أن القوات الأوكرانية احتلت تقريبًا جميع المرتفعات المهيمنة حول باخموت، رغم وجود شهادات لكثير من شهود العيان، فى المقابل تؤكد أن الوحدات الأوكرانية حاولت دون جدوى اختراق خطوط الدفاع الروسية، فى اتجاه «كليشيفكا» الواقعة على مسافة ٧ كلم جنوب غرب باخموت. لكن فى الوقت الذى تتأكد فيه قوة الدفاع الروسية، ما زالت العمليات الهجومية للوحدات الروسية هى الأخرى محدودة الفاعلية على نفس خطوط المواجهة.
الجيش الروسى يعمل على علاج هذا التباطؤ، المتمثل فى عدم القدرة على الحسم بخطوط مواجهة على قدر كبير من الأهمية الاستراتيجية لمجمل العملية العسكرية، من خلال السعى إلى إنتاج أسلحة نوعية تعزز من قدرات الوحدات التى تستنزف فى المواجهات المباشرة مع القوات الأوكرانية. مؤخرًا أعلنت وسائل الإعلام الروسية عن المسيرة الكاميكازى الروسية «لانسيت» التى تتمتع بمواصفات لا تقهر، حسب توصيف الخبراء الروس والشركة المنتجة لها.
وقد وصفت تقارير الترويج الإعلامى لقدرات «لانسيت» التى وصفتها بالجيل الجديد من المسيرات، بأنها لن تقهر فهى محصنة تمامًا بحيث لا يمكن اعتراضها. الشركة المصنعة لتلك المسيرة «زالا إيرو جروب» الروسية المصنعة لطائرات الدرونز، حددت ميزاتها الرئيسية فى بساطة استخدامها والاستقلال التام عن وسائل دفاعية يمكن أن تؤثر فى فاعليتها. كما كشف المصممون الروس عن أن هذا الجيل الجديد سيعمل بأمر من مشغلها، الذى يحدد وحده منطقة استخدامها، فى الوقت الذى ستختار المسيرة الانتحارية بنفسها الهدف الذى ستصيبه. حسب الشركة المصنعة فإن المسيرة «لانسيت» مصممة كى تستهدف المدرعات ومختلف أنواع الرادارات ومراكز القيادة وحشود القوات البشرية، وهى بذلك تعوض النقص الذى كانت تعانى منه القوات الروسية، مشيرة إلى أنه «لا يمكن» إسكاتها بواسطة وسائل الحرب الإلكترونية، فهناك كمبيوتر إلكترونى مستقل قادر على كل أنماط المناورة موجود على متنها مباشرة.
الخطير فى هذا النمط المتنامى للأهداف المتبادلة أن «اتفاقية الحبوب» باتت على المحك بعد المبارزة الأخيرة فى القرم وأوديسا، ففيما نجحت أوكرانيا فى تعطيل جسر القرم والتأكيد على كونه أحد أهدافها المتكررة، ألغت موسكو بالمقابل أى ضمانات أعطتها مسبقًا لسلامة الملاحة حول الجسر وتحته، امتدادًا إلى موانئ أوديسا التى دخلت فى دوامة الاستهداف هى الأخرى. وفق القرار الروسى انتهى العمل باتفاق الحبوب هذا الأسبوع، وبذلك أوصدت الأبواب أمام ما يقارب نصف صادرات الحبوب الأوكرانية، فى الوقت الذى تؤكد فيه كييف أنها ماضية فى تصدير حبوبها عبر البحر الأسود بالتعاون مع تركيا، استنادًا إلى دعم الأمم المتحدة لتلك الآلية التى تسهم فى استقرار نسبى لسوق الحبوب الاستراتيجية. لكن تظل معضلة «التكلفة الباهظة» فى حال استخدام طرق بديلة للتصدير عائقًا كبيرًا تمت تجربته العام الماضى ولم يحقق النجاح ولا الاستقرار المنشود للأسعار، فتجربة نقل الحبوب عبر نهر «دينيبرو» كانت مكلفة بنسبة كبيرة، ونتج عنها تأثير سلبى ملموس على أسعار الحبوب عالميًا.
موسكو ما زالت ترى أن الضجة العالمية حول موضوع المساس بالأمن الغذائى، من خلال طرح موضوع اتفاقية تأمين الحبوب الأوكرانية، مصطنعة باعتبارهما قضيتين منفصلتين. فقد قدمت روسيا أرقامًا تفيد بأن الكمية الأكبر للحبوب فى هذه الاتفاقية تتجه لأوروبا، والمستفيد الأساسى من هذه المادة المصدرة ليست دولًا إفريقية ولا آسيوية، بل وعدت تلك الدول بأن تصدر لها الحبوب بطريقة مباشرة. وقد تذهب روسيا إلى أبعد من ذلك عبر التبرع بكميات معينة من الحبوب لتلك الدول كمساعدات إنسانية. لكن هل يفى ذلك بالغرض؟؛ كل الأسواق والمستهلكين استشعروا كثيرًا من القلق البالغ الذى يأتى فى محله، فلا يمكن الاعتماد على التطمينات الروسية المنفردة وهى فى تلك المرحلة من الحرب، لذلك تعود هواجس التضرر العالمى الكبير للسلع الاستراتيجية لتطل برأسها مجددًا، فى ظل هذا التطور المستجد للأهداف العسكرية.