تروما الحرب.. أطفال التوحد في السودان «تحت الصدمة»
كانت الساعة تقترب من الثانية فجرًا في ليلة العاشر من مايو/ أيار 2023، حين سمعت «سعدية» تقطن في ولاية الخرطوم بالسودان، أزيز طائرات تنذر بقصف جوي جديد، ربما تحصد مزيدًا من الأرواح أو تهدم بيوتًا فوق أصحابها، ذهبت إلى غرفة ابنها «أحمد» 15 عامًا لتطمئن عليه، فوجدته يمشي على يديه وقدميه بخوف شديد ويحاول الاختباء أسفل الطاولة مع حالة من البكاء.
أحمد شُخص بالتوحد حين كان في العاشرة من عمره، وظل 5 سنوات يتلقى العلاج في مركز دريم للتخاطب وتنمية المهارات بالخرطوم، إلا أنه منذ قيام الحرب أغلقت مراكز التخاطب في الولاية، ولم يتلق منذ قرابة شهرين أي جلسة علاج كانت تساعده على التحسن ما أدى إلى تدهور حالته.
منتصف نيسان/ أبريل العام 2023 وقع نزاع مسلح بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبدالفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أدت إلى مقتل 3 آلاف وإصابة 6 آلاف آخرين وفق وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم.
أحمد يزحف في المنزل ويسير على يديه
تقول سعدية لـ«الدستور»: «مرت الأيام الأولى من الحرب على أحمد بخوف وفزع شديدين مع أصوات القصف المستمرة، وتضاعف الخوف مع خروجه ورؤيته للجثث بالشوارع، حيث كنا نبحث عن مركز علاج، فيدخل في نوبات بكاء وتشنج ويحاول الهروب من ذلك الصوت بوضع يديه على أذنيه».
الآن أصبح أحمد يسير على قدميه ويديه حين يسمع أي صوت حتى إن كان صرير باب، ويختبأ طول الوقت أسفل الطاولة أو السرير، ويزحف في المنزل منخفضًا الرأس معتقدًا أن هناك رصاصًا سيصيبه وكل يوم حالته تزداد سوءً.
أحمد وقرابة 200 ألف طفل آخر مُصاب بالتوحد في السودان، يعانون من غلق مراكز التخاطب وتنمية المهارات بالخرطوم منذ بداية الحرب وخروجها عن الخدمة؛ ما أدى إلى إصابة بعضهم بـ«تروما الحرب» وتدهور حالتهم، بين فقد النطق والسير زحفًا والتبول اللاإرادي بسبب الخوف الشديد من أصوات القصف المستمرة ومشاهد الجثث المتناثرة في الشوارع.
اليونيسف تقدم دعم لأطفال التوحد
يؤكد «اوين واتكنز»، مدير قسم الإعلام والمناصرة باليونيسف في السودان، أن للنزاع في السودان تأثيرًا نفسيًا واجتماعيًا خطيرًا على الأطفال والأسر، بما في ذلك أولئك الذين ينزحون للمرة للثانية، ويتعرض ملايين الأطفال لمخاطر متزايدة من آليات التأقلم السلبية.
يوضح لـ«الدستور» أن هناك 7 أطفال يسقطون كل ساعة في الحرب الدائرة بالسودان، بينما قتل ما يقرب من 190 طفلًا و1700 أصيبوا بجروح خلال أول 11 يومًا، فيما هناك 13.6 مليون طفل في السودان بحاجة إلى مساعدة عاجلة، ويقدر أعداد ذوي الهمم في السودان بـ2 مليون طفل.
وتضمن اليونيسف رفاهية الأطفال المتأثرين بالنزاعات من خلال توفير بيئات صديقة للأطفال واستجابات الحماية، وفقًا لـ«واتكنز»، كما نقدم خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي الاجتماعي، لا سيما للأطفال ومقدمي الرعاية المتأثرين بالنزاع، وتم تقديم الدعم النفسي لـ8332 ألف طفل توحد تضرر من النزاع.
وتطالب اليونيسف على لسان «واتكنز»، جميع الأطراف المعنية وقف إطلاق نار طويل الأمد ومسارات آمنة للأطفال وعائلاتهم للوصول إلى الإمدادات والخدمات الأساسية، مشيرة إلى أنه تم تخصيص مبلغ 837.6 مليون دولار أمريكي لتقديم الخدمات المنقذة لحياة للأطفال خلال الأزمة المستمرة في السودان، وإعادة تشغيل مراكز التخاطب التي خرجت عن الخدمة.
1500 طفل توحد محرومين من الجلسات
المركز السوداني لتدريب أطفال التوحد في الخرطوم، أحد المراكز التي خرجت عن الخدمة صبيحة اليوم التالي من بداية الحرب، رغم أنه كان يخدم نحو 1500 طفل مصاب بالتوحد، لم يستطع الآن التواصل معهم.
يقول الدكتور أحمد العقاب، أحد أطباء المركز، لـ«الدستور» أن الحرب كان لها أثر بالغ على أطفال التوحد، بسبب أن المركز متوقف بكل أنواع الجلسات التي كان يقدمها للأطفال: «حتى محاولة التواصل مع الأهالي تليفونيًا باتت صعبة لأن البيوت قُصفت ولا توجد شبكة مُتاحة في الولاية نتيجة القصف المستمر».
في الأيام الأولى للحرب وفقًا للطبيب كان المدربون يحاولون الوصول إلى منازل الأطفال لطمأنتهم لكن الوقود نفد ولا يستطيع أحد التحرك بالشوارع: «بُلغنا من الأهالي بأن أعراض الخوف والتوحد لدى الأطفال تفاقمت وشخصنا كثيرًا منهم بتروما الحرب أي الصدمة المركبة وخرجت على هيئة أحلام مفزعة أو تبول لا إرادي وخوف من الأصوات».
ابن «رشيدة» من التوحد للتبول اللا إرادي
ذلك ما حدث مع ابن رشيدة، سودانية الجنسية وتقطن في شارع فتاشة بأمدرمان في الخرطوم، حيث رأت ابنها الصغير عمرو 10 أعوام، للمرة الأولى يتبول لا إراديًا على ملابسه وهو جالس، بسبب سماعه دوي رصاص في الخارج، أبان 8 مايو/ أيار الماضي.
تقول لـ«الدستور»: «ابني مصاب بالتوحد وهو في الثامنة من عمره، ويتلقى جلسات تنمية مهارات في مركز القاسم بالخرطوم، لكن منذ بداية الحرب وخرج المركز عن الخدمة، وانقطع عمرو عن تلقي جلسات العلاج، وتفاقمت حالته بسبب مشاهد الحرب وصوت القصف والرصاص».
كانت تلك المرة حين كان عمرو في شرفة المنزل، وفجاءة بدأ يهرول إلى الداخل مع قدوم طائرات القصف وإنذارها: «أصابته حالة من الهلع والارتجاف ووقف يتبول على نفسه ومنذ ذلك الوقت أصبح الأمر عادة لديه».
أعراض أخرى أصابت عمرو في الأيام التالية للحرب بات يصحو من نومه مفزوعًا ويحلم بالكوابيس ويخبر أمه أنهم سيُقتلون قريبًا، بات يهاب الشارع وجميع الأصوات المفاجئة، ولا يستطيع التحكم في قضاء حاجته.
استشاري العلاج النفسي في وزارة التنمية بالخرطوم يكشف معاناة أطفال التوحد
تعامل الدكتور عبدالله إبراهيم، استشاري العلاج النفسي للأطفال في وزارة التنمية الاجتماعية بالخرطوم، مع نحو 50 حالة شبيهة لـ«عمرو» من أطفال التوحد الذين فاقمت الحرب أعراضهم وأصيبوا بتبول لا إرادي.
يوضح لـ«الدستور» أن أغلب مراكز التخاطب وتنمية المهارات في الخرطوم متوقفة عن العمل بشكل تام بسبب الحرب، مما دهور حالة الأطفال: «الوزارة أيضًا متوقفة ولكنني أعمل بشكل منفرد على أطفال التوحد لأن كثيرًا منهم أصيب بحالة بتروما من الحرب».
الخطر وفق عبدالله يكمن في تغيير طبيعة الحياة التي تعود عليها طفل التوحد: «هناك أطفال كانوا لديهم نشاطات وبرامج قبل الحرب، الآن فقدوا تلك الأنشطة والبرامج وأصبحوا تحت مظلة الرعب والخوف من أصوات المقذوفات والرصاص».
وعن الأعراض الأخرى للحالات التي عمل معها: «لديهم معانا شديدة الآن، هناك من لديه تبول لا إرادي، وتبرز لا إرادي في السرير ورفض الذهاب للحمام، كوابيس وأحلام مزعجة مما يحدث في الحرب، الخوف والبقاء بقرب ولصق من الأم أو مقدم الرعاية ومنهم من فقد النطق».
عمرو مصاب بالتوحد يفقد النطق بعد موت والدته
فقد النطق كان العرض الذي أصاب الطفل حارث 10 أعوام مصاب بالتوحد، حين رأى أمه تقتل أمامه. سلمان آدم، خال حارث يحكي لـ«الدستور» أنه في يوم 27 مايو/ أيار كان برفقة شقيقته وزوجها وأقاربهم يحاولون السفر إلى تشاد هربًا من الجحيم في السودان من ولاية غرب دارفور، بلا ماء أو غذاء ودواء.
يضيف: «كنا في طريقنا وفوجئنا بغارة من القصف والنيران تُطلق من كل جانب، حاولنا الاحتماء لكن أصيبت شقيقتي الحامل في شهرها السابع بطلقة». شاهد حارث أمه وهي يطلق عليها النيران وتسقط على الأرض وتحيطها الدماء هي والجنين في أحشائها: «حارث من هول الصدمة لم يبك أو يصرخ ولكن ظل مشدوهًا وباقي الأطفال يبكون إلا هو».
توقع سلمان أن حالة الذهول التي أصابت عمرو وألجمته عن الصريخ أو البكاء ستزول بمرور الوقت، ولكنه فقد النطق ولم يعد يتحدث من يومها حتى الآن: «شُخص ابن شقيقتي بعد ذلك بحالة PST وهي حالة صحية عقلية تحدث بسبب حدث مخيف تفقده النطق ولا يتأقلم بعدها وفق تشخيص المتطوعين من الأطباء له».
فقدان النطق لمصابي التوحد بسب الحرب
يفسر عبدالله إبراهيم، استشاري العلاج النفسي في السودان، لـ«الدستور» حالة PST بأنها تحدث للأطفال نتيجة رؤية حدث مخيف، وتتضمن استرجاعًا للأحداث والكوابيس والقلق الشديد، ويتفاقم مع مرضى التوحد بأعراض التبول اللا إرادي.
ويعطي إبراهيم نصائح للتعامل مع تلك الحالات بأن يتم خروج الطفل من مكان الصراع أولًا، ثم مقابلة طبيب واختصاصي نفسي في أقرب وقت: «الطبيب يقوم بالفحص العضوي إذا لم يكن هناك مشاكل في صحة الطفل يتم التحويل مباشر لجلسات العلاج النفسي أو متخصصين في علاج التروما وتفكيكها».
وفي حال عدم قدرة الأسرة الوصول إلى طيب، يتم توفير مكان آمن للطفل، والاستماع جيدًا لما يقوله بتركيز وانتباه، والنظر في عينيه في أثناء الحوار بقدر الإمكان وإخباره الحقيقة وطمأنته بأن كل تلك الأمور ستزول، وجميعها تصرفات مؤقتة حتى يلتقي مختصًا.
يضيف لـ«الدستور»: «الطفل الذي يعاني من صدمة الحرب يحتاج إلى مكان آمن، ولشخص يستمع إلى مخاوفه وحديثه ويطمئنه ويحتويه، ووسائل لتفريغ المكبوتات والصراعات عن طريق الرسم أو اللعب وغيرها من الطرق، وشخص يصحح له الأفكار الخاطئة ويفسره له الأحداث بطريقة مبسطة وصحيحة على حسب قدراته ومفهومه».
ما زال ابن سعدية يسير على يديه وقدميه ويختبأ كلما سمع صوت القصف، بينما ابن رشيدة يتبول لا إراديًا خوفًا من صوت الحرب، فيما لم ينطق عمر بأي كلمة منذ بداية الحرب، في وقت لم يتلق فيه أي منهم جلسات العلاج المقررة لمرضى التوحد.
جميع أسماء الأطفال المُستخدمة مستعارة حفاظًا على خصوصيتهم