تزامنًا مع ذكرى رحيله.. من هو القديس أوليڤر بلونكيت الشهيد
تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في مصر بذكرى رحيل القديس أوليڤر بلونكيت الشهيد.
وتزامنًا مع ذكرى رحيله ترصد الدستور أبرز المعلومات عنه.
اسمه "أوليڤر"، وهو اسم يعني شجر الزيتون، وقد كانت تُستحَبّ هذه التسمية لكون شجر الزيتون رمز الإثمار والجمال وأغصانه رمز السلام.
وُلِدَ "أوليڤر" في 1 نوڤمبر 1625، في مدينة لوكرو بأيرلندا، لعائلة من نبلاء البلاد هي عائلة پلانكيت.
ظل الفتي أوليڤر يتلقى تعليمه حتى عمر السادسة عشر عن يد أحد أقربائه وهو "الأب پاتريك پلانكيت" رئيس دير القديسة مريم العذراء بالعاصمة الأيرلندية دوبلن.
نمت الدعوة الكهنوتية لديه فاتجه إلى روما عام 1647، ليصير تحت رعاية "الأب پيارفرانشيسكوا سكرامپي" المبعوث الباباوي للاتحاد الأيرلندي الكاثوليكي، الذي كان مُعظم أفراد عائلة پلانكيت أعضاء بارزين فيه. في تلك الفترة اشتعلت الحروب الكونفدرالية الأيرلندية بضراوة، بين سُكان أيرلندا الأصليين الكاثوليك، وبين الپروتستانت والأنجليكان القادمين من إنجلترا لفرض تواجدهم في أيرلندا بحيث لا تبقى كاثوليكية بالكامل.
تم قبول أوليڤر بالكلية الأكليركية الأيرلندية ومقرها روما، وأثبت أنه طالب مُميَّز. إلى أن تمت سيامته الكهنوتية عام 1654، وانتُدِبَ من قِبَل الأساقفة الأيرلنديين ليكون ممثلهم في روما.
إبّان ذلك، حدث الغزو الإنجليزي لأيرلندا بقيادة السياسي والعسكري "أوليڤر كرومويل"، ليضع أيرلندا قيد الأسر، ويحظر كل أنشطة الكنيسة الكاثوليكية بها وأولها إقامة القداسات، ويتفرغ لإعدام الإكليروس الكاثوليكي بها ومنع المُرسين للخدمة الكهنوتية من روما، وقد استمر هذا الغزو وأحكامه الجبرية مابين عامي 1649 إلى 1653.
نتيجة لذلك كان محظوراً عودة الأب أوليڤر پلانكيت إلى أيرلندا طوال تلك الفترة، فظل في روما يُكمل دراساته إلى أن أصبح أستاذاً في اللاهوت بكلية نشر الإيمان عام 1657.
بعدها ومع بداية فترة حكم "تشارلز الثاني" ملك انجلترا، وبينما كان الأب پلانكيت باقياً في روما، ناشد بحماس ألا تتخلى الكنيسة الجامعة عن قضية الكنيسة الأيرلندية الكاثوليكية وضرورة مساعدتها على البقاء.
تم تنصيبه رئيساً لأساقفة أرما بأيرلندا عام1669م (أرما هو مكان الكرسي الرسولي الأيرلندي)، وتقررت عودته إلى أيرلندا خلال فترة هُدنة وإيجاد سُبُل للتسامح بين إنجلترا وأيرلندا.
ما إن وطئت قدما رئيس الأساقفة الجديد پلانكيت، أرض أيرلندا في 7 مارس 1670، حتى بدأ يتحمل مسئولياته بمنتهى السُرعة وأولها الإطمئنان على المستوى الروحي لإكليروس الكنيسة الأيرلندية الكاثوليكية، وبالبحث تبين له أن الظُلم والتضييق الذي تعرض له الكهنة بدلاً من أن يرفع مستوى روحانياتهم وإيمانهم، دفعهم إلى اليأس وانتشر بينهم الإكثار من شرب الخمر لدرجة السُكْر. وبرغم من إنزعاجه الشديد من هذا السلوك السئ لكنه حاول إصلاح الكهنة بحكمة من خلال استعادة الحضور في روح الله والحماس من أجل الخدمة مهما تكلف الأمر، ولم يحاول استخدام العقوبات الكنيسة بالعزل أو الإيقاف، كنوع من الرحمة بهم وكفرصة أولى لاسترداد قواهم ورسالتهم الكهنوتية، فخاطبهم بكلمات قصيرة قائلاً: "دعونا نزيل هذا العيب عن الكاهن الأيرلندي، ليصير قديساً".
كذلك خلال عامه الأول على كُرسي أرما، استطاع افتتاح كلية إكليركية يسوعية في دروهيدا القريبة من العاصمة دوبلن، برغم صعوبة أخذ التصريح على ذلك من انجلترا في تلك الفترة، إلا أن سلامية الأسقف پلانكيت وميله إلى التسامح ونبذ العنف، وأدبه في المطالبة بحقوقه، أحدثت استجابة لدى المسئولين.
كذلك تعهَّد پلانكيت بأن تكون الكلية اليسوعية مفتوحة للدارسين بمختلف طوائفهم، لذلك وفي عام افتتاحها قبلت الكلية اليسوعية بدروهيدا، 150 طالباً بينهم 40 طالب پروتستانتي! لتصير هذه الكلية نواة سلام وانفتاح على الآخر المسيحي.
كانت فترته كرئيس أساقفة ناجحة ومثمرة منذ البداية، فقد حمَّس عدد كبير من الكهنة وساعدهم على تخطّي محنة الفتور الروحي، كما حافظ برغم انفتاحه وتسامحه على الهوية الكاثوليكية وأصبح رمزاً مُشجِّعاً لها، واستعاد انتماء العلمانيين الكاثوليك إليها بعد أن فتروا وبداوا يتشتتوا بسبب الحظر ومزايا الإنضمام للأنجليكانية والپروتستانتية. إذ يُذكر أنه خلال الأربع أعوام الأولى له على كرسي أرما تم إعطاء سرّ التثبيت لحوالي 48 ألف أيرلندي، وهو ما يعني رغبتهم في الاستمرار والإنتماء للمسيحية الكاثوليكية.
عام 1673، أصدر البرلمان الإنجليزي مرسوماً يُطلق عليه "مرسوم الإختبار"، وينُصّ هذا المرسوم بأن المتقدمين لشاغل وظائف في الدولة لابد وأن يكونوا من الأنجليكان (أي ينتمون لكنيسة إنجلترا التي يرأسها الملك) أو پروتستانت. بالتالي يُحرَم الكاثوليك من شغل أي وظيفة حكومية.
لأسباب مواطنية أعلن الأسقف پلانكيت رفضه لهذا المرسوم الطائفي الذي يُعدّ عنصرية ضدّ الكاثوليك كمواطنيين أيرلنديين. فكان رد فعل البرلمان والحكومة قرار بغلق وهدم الكلية اليسوعية التي كانت وقتها رمز للواصُل بين المسيحيين من مُختَلف الطوائف، كنوع من معاقبة پلانكيت على أرائه، واكتملت العقوبة بالحكم عليه بالنفي.
تخفَّىَ الأسقف پلانكيت حتى يبقى داخل أيرلندا ولا يترك كنيستها لمحاولات التدمير المعنوي، وهرب قبل أن تأتي قوة تنفيذ حُكم النفي لتوصله لميناء منفاه الذي أقرته الحكومة الإنجليزية الضاغطة بقوة على حكومة أيرلندا، وعاش عدّة سنوات يحاول استعادة سلامه المفقود وتركيزه في سماع صوت الله، ومُباشرة عمله من خلال من أمّنهم على سرّه.
مع حلول عام 1678، ظهر على السطح اسم رجل دين أنجليكاني يُدعَى "تيتوس أوتس"، إدّعى بأن هناك ما يُسمّىَ بالـ "المؤامرة الباباوية" من جانب الكنيسة الكاثوليكية، للتخلُّص من ملك إنجلترا "تشارلز الثاني"، وأن أعضاء هذه المؤامرة هُم إكليروس الكنيسة الكاثوليكية بأيرلندا، وكان لإدعائه أثر واسع وسريع في انتشار هيستيريا العداء للكاثويكية والاتجاه لممارسة العنف نحو إكليروسها وعلمانييها.
على أثر ذلك تم اعتقال رئيس أساقفة دوبلن "پيتر تولبوت"، كما حاول المجلس الملكي إلصاق تهمة التآمُر مع فرنسا لغزو انجلترا (بوصف فرنسا كاثوليكية) بالأسقف پلانكيت ، وتقرَّرت مكافئة لمن يأتي به حيّاً أو ميتاً.
نصحه المقربين الذين يعرفون مكان اختفائه، أن يهرب خارج أيرلندا لتوتر الوضع ولحتمية خضوعه لحكم الموت حال اعتقاله، لكنه رفض أن يبتعد عن كاثوليك أيرلندا الذين يحتاجون إليه. كل ما فعله أنه انتقل إلى كنيسة مدينة كيلتري شمال شرق أيرلندا، والقريبة نسبياً من مقر الكلية اليسوعية المهدومة.
تم اعتقاله في ديسمبر 1679، وانضم إلى محبس رئيس أساقفة دوبلن "پيتر تولبوت"، وكان التدبير الحسن فعلياً لكون تولبوت قد أشرف على الموت وكان يشعر بحاجة ماسة إلى سرّ المصالحة والغفران الذي ناله عن يد پلانكيت.
وفي محاكمة بلا أي أدلة، سوى إدعاءات بكونه خطَّط لجلب 20 ألف جندي فرنسي لغزو انجلترا، وفرض ضريبة على رجاله لدعم 70 ألف أيرلندي مُتمرِّد، كل ذلك في إطار ما يُسمىَ بـ "الموامرة الباباوية".
كان دوق أورموند واثقاً من براءة الأسقف پلانكيت، لكنه خشىَ على موقعه من إعلان شهادة حق نحوه. كل ما استطاع فعله هو أنه كان يتحدث عن كونه برئ في جلسات خاصة بالسادة والنبلاء في إنجلترا، ويُشكِّك في نزاهة شهود القضايا، ويعتبرهم شهود زور مأجورين بالمال.
لم يعترض پلانكيت على مواجهة هيئة مُحلفين پروتستانتية بالكامل، لكن سرعان ما انهارت أركان القضية لأن شهود الادعاء كانوا أنفسهم رجالاً مشكوك في نزاهتهم ويخافون المثول أمام المحكمة.
أدرك الراغبين في التخلُّص من پلانكيت أنه لن يُدان في محكمة أيرلندية، لذلك عليهم نقل محاكمته إلى وستمنستر بإنجلترا لضمان إدانته. وكان لهم ما أرادوا حيث تم إنتهاك قواعد العدالة والقانون في وستمنستر بشكل كامل، فحُرِمَ پلانكيت من حق تواجد محامي دفاع، وتم تجنيد شهود إثبات جُدد يحملون للكاثوليكية كراهية شديدة ويحاولون الإنتقام منها في شخص پلانكيت، إلا أن الطعن في شهاداتهم كان مستحيلاً لكونهم من أهل الثقة والعائلات النبيلة وليس لهم سوابق جنائية.
لم يتكلم پلانكيت كثيراً طوال المحاكمة لكنه سجَّل اعتراضه على المحاكمة خارج أيرلندا لكون ذلك مُخالفاً للقانون. وقد شهد أكثر من شخصية سياسية ودينية معاصرة لمحاكمات "المؤامرة الباباوية" أنها كانت وصمة عار في تاريخ القضاء الإنجليزي.
إنتهت تلك المحاكمة الهزلية بتوجيه اتهامات على رأسها التآمر على حياة ملك إنجلترا وهي تهمة خيانة عُظمىَ عقوبتها الإعدام، وكان تعليق الأسقف البرئ پلانكيت بعد سماع الحُكم قال باللغة اللاتينية الشكر لله.
جهات كثيرة مؤثرة ناشدت تشارلز الثاني ملك إنجلترا بالعفو عن الأسقف پلانكيت، كان أشهرها رجاء خاص من "لويس الرابع عشر" ملك فرنسا، وقد جاء رد ملك إنجلترا مفاجئً وصادماً، حيث أرسل يقول لملك فرنسا أنه على علم ببراءة پلانكيت، لكن الوقت لم يكن مناسباً لإتخاذ خطوة تبرئته أو حتى العفو عنه!
حتى أحد أشدّ المتآمرين على پلانكيت لتشويه صورته وتاريخه وهو "أرثر كابيل" لورد مدينة اسكس - صاحب فكرة محاكمته في انجلترا لضمان إدانته - عندما علم بأن الحكم هو بالإعدام، شعر بشئ من الندم وقدَّم هو الآخر التماساً للملك بالعفو عنه، لأنه يعرف أن پلانكيت برئ. حينها استدعاه الملك واستقبله بغضب شديد قائلاً: "دمه على رأسك أنت يا لورد اسكس .. كُنت تعرف يا أرثر أنه برئ ولكنك حشدت جهودك لإدانته .. كان بإمكانك مساعدته قبل الحُكم لكنك لم تفعل، وأنا بإمكاني إنقاذه الآن ولن أفعل".
يُعزى إحجام الملك عن قبول العفو عنه إلى كونه مُدان قضائياً بتهمة الخيانة العُظمى بتآمر على حياة الملك. وهي تهمة عقوبتها الموت ولا يجوز العفو عن المُدان بها، لأن العفو عنه يعني احتمالين:
إما أن المحاكمة ظالمة وهو اتهام يهز أركان القضاء في إنجلترا ويُفقده مصداقيته وعدالته. أو أن الإتهام صحيح لكن عفو الملك يعطي جرأة لمتآمرين آخرين على ارتكاب نفس الفعل أملاً في العفو عنهم حال إدانتهم.
في صباح يوم 1 يوليو 1681، تم تقييد الأسقف پلانكيت بالحبال وسحله خلف حصان حتى مكان تنفيذ الحكم في قرية تايبن التابعة لويست منستر، صلّى پلانكيت طالباً الغفران لكل من تسبب في هذا الحكم، بعدها تم شق بطنه وإخراج أحشائه ثم تقطيع جسده إلى أربعة أجزاء، وهو حُكم مُعتاد لكل من يُتهم بخيانة الملك.
ليستشهد بعمر الخامسة والخمسين، ويصبح آخر شهداء المحاكمات الظالمة لأسطورة "المؤامرة الباباوية" والتي أودت بحياة 22 رجلاً من إكليروس أيرلندا الكاثوليكي.
تم دفنه جثمانه الممزق في صندوقين من الصفيح، إلى جوار خمسة من شهداء المحاكمات الظالمة اليسوعييين، بكنيسة القديس چايلز بإنجلترا.
عام 1683، تم نقل رفاته إلى دير الأباء البندكتين في لامسبرينج – ألمانيا. ويُذكَر أن رأس القديس لم تنحل وهي بحالة متماسكة ويبدو عليها سِمات التألُّم والنزاع الأخير. لذلك تم نقلها إلى روما وفي النهاية صار مزارها الرئيسي بكنيسة القديس بطرس في دروهيدا القريبة من العاصمة الأيرلندية دوبلن حتى اليوم.
تم إعلانه طوباوياً في 23 مايو عام 1920م، عن يد "البابا بنديكتوس الخامس عشر".
تم إعلانه قديساً12 أكتوبر عام 1975م، عن يد القديس "البابا بولس السادس".