أبعاد ومدى «الهجوم المضاد» الأوكرانى
الرئيس الروسى فلاديمير بوتين؛ خرج خلال هذا الأسبوع، أكثر من مرة، فى لقاءات إعلامية تناول فيه أكثر من زاوية من زوايا الحرب، الأحدث والأشمل من تلك الأحاديث تحدث فيه عن تاريخ علاقة نظامه بدول الغرب وكيف أنه، من وجهة نظره، قدم أكثر ما يمكن تقديمه من إيجابية، خلال سنوات حكمه، منذ تولى الرئاسة فى عام ٢٠٠٠. لكن التقدير المقابل من الدول الغربية لم يحدث، بل تسبب التعنت الغربى مع روسيا الاتحادية ومخططات دول حلف الناتو فى اشتعال الحرب الأوكرانية الحالية، وعن الهجوم المضاد الأوكرانى المنتظر، كان هناك تأكيد للرئيس الروسى بأنه قد بدأ بالفعل، مستخدمًا توصيفات لا تقبل الجدل «يمكننا أن نقول بالتأكيد إن هذا الهجوم الأوكرانى قد بدأ»، وفى آخر «الهجوم المضاد واسع ومستمر، بينما أتحدث الآن».
التحليلات العسكرية والأوضاع الميدانية لجبهات القتال؛ تكشف أن ما يمكن تسميته بـ«الهجوم المضاد» الأوكرانى، هو وضع معقد ومتطور طوال الوقت، لذلك من الصعب أن نقول بشكل قاطع ما هى أبعاد الهجوم المضاد، لكن يظل هناك بعض النقاط والمحاور الأساسية التى يمكن الوقوف أمامها. أولًا؛ يتركز الهجوم المضاد على منطقة «الدونباس الشرقية» فى أوكرانيا، هذا هو المكان الذى دارت فيه أعنف معارك القتال منذ بداية الحرب، وهو أيضًا النطاق الجغرافى الذى أحرزت فيه روسيا أكبر تقدم ملموس على الأرض. ويظل الهدف الرئيسى للهجوم المضاد الأوكرانى هو إزاحة القوات الروسية للخلف تجاه الشرق، ومحاولة استرداد المناطق التى سيطرت عليها فى الدونباس وما بعدها داخل العمق الأوكرانى. ثانيًا؛ يتم تنفيذ الهجوم المضاد من قبل مجموعة من قوات الجيش الأوكرانى النظامى، مدعومًا بقوات الدفاع الإقليمية وسرايا المتطوعين. وفى هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الجيش الأوكرانى مؤخرًا تمكن من حشد عدد كبير من القوات المساندة للهجوم المضاد، فى ظل تنامى ما يتلقاه من دعم كبير من الغرب فى مجالات الأسلحة والذخائر والإمدادات.
ثالثًا؛ وهذه نقطة مهمة ربما هى ما استدعت أن يفصل الرئيس الروسى، فى الرد ومحاولة الخروج بتفنيدات وتقييم لما يجرى من متغيرات الآن. الهجوم المضاد حقق نجاحات فى بعض المجالات لا شك، لكنه واجه أيضًا بعض الانتكاسات. حيث تمكنت القوات الأوكرانية من استعادة بعض الأراضى من القوات الروسية، لكنها تكبدت فى المقابل أيضًا خسائر فادحة. مما يدفع للقول بأن نتائج الهجوم المضاد ما زالت غير مؤكدة، لكن من الواضح أنها ستشكل نقطة تحول رئيسية فى الحرب وهذا مؤكد، فهناك تطور مهم يجرى فى هذا الفصل من عمر الحرب، ومن المرجح أن يكون له تأثير كبير على مسار الصراع. بالنظر إلى بعض المتغيرات التى جرت، نجد أن كييف قد بدأت فعليًا فى تطوير وإعادة رسم «ملامح العمليات»، تمثل فى قصف مدفعى طويل المدى واستهداف صاروخى لأهداف لوجستية روسية استراتيجية بعيدة عن خطوط التماس الأمامية. جاء ذلك مصحوبًا بتحرك لمفارز صغيرة من وحدات المدرعات الخفيفة، عبر الحقول المفتوحة فى اتجاه التحصينات الروسية فى جنوب أوكرانيا، وجنوب شرق زابوريجيا، من أجل تنفيذ عمليات اختراق مباشر تصب فى صالح النتائج النهائية للهجوم المضاد. وهذا ما جعل خطوة «تدمير سد كاخوفكا» تميل أكثر تجاه الاستفادة الروسية منها، كون الطريق عبره كان يشكل خط هجوم محتملًا للقوات الأوكرانية التى تبحث عن طرق لتفقد القوات الروسية توازنها على هذا المحور.
الرئيس بوتين وصف «الهجوم المضاد» الأوكرانى؛ بأنه واسع النطاق، إلا أنه لم يحقق أى نجاح وفق تعبيره، وفق ما قرره من أن أوكرانيا خسرت بين ٢٥٪ و٣٠٪ من المعدات التى حصلت عليها مؤخرًا من الغرب. وهذه خسائر تعتبرها روسيا أكبر بعشر مرات من الخسائر الروسية، لذلك فما زالت مشاهد الجبهة حبلى بالأحداث فى حال ظلت القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية، ثابتتين تجاه أهدافهما الاستراتيجية من تلك الحرب، وهو ما يبدو حتى الآن على الأقل. فخطوط الجبهة من الجانب الأوكرانى ما زالت تتحرك، وهناك عدة خيارات لا تزال مفتوحة أمام القادة الأوكرانيين، حتى وهم يعملون فى ظل عدد من القيود المؤثرة، أبرزها الافتقار إلى الطائرات المقاتلة القادرة على توفير الدعم الجوى للقوات المتحركة على الأرض. فى المقابل على الجانب الروسى؛ هناك مساحة من الهواجس تتعلق بإمكانية اختراق القوات الأوكرانية الخطوط الروسية على طول الطريق إلى بحر آزوف، حينها ستكون القوات الروسية غرب هذا الاختراق فجأة أكثر عرضة للخطر، بل قد تضطر حينها إلى الاعتماد كليًا على خطوط الإمداد عبر شبه جزيرة القرم، مما سيعرض القوات المتمركزة بالقرم إلى انكشاف لن تتمكن روسيا من ترميمه سريعًا.
تقييم ما يجرى بدقة قد يكون صعبًا فى تلك المرحلة من عمر «الهجوم المضاد»، خاصة والطرفان المتحاربان يقدمان روايات متناقضة، ففى الوقت الذى تدعى فيه أوكرانيا إحراز تقدم، تزعم روسيا طوال الوقت أنها تصد الهجمات على جميع المحاور، وهذا غير منطقى بالطبع. لكن يظل المؤكد أن الجيش الأوكرانى؛ نفذ عمليات كبيرة فى عدة مناطق شرقية وجنوبية خلال الأسبوع الماضى، حيث نجح فى إحداث اختراق الدفاعات الروسية فى بعض المناطق. هذا التقدم يعد جيدًا، خاصة وهو مصحوب باختراق فعلى للخط الأول للدفاع الروسى فى بعض المناطق، وفى أماكن أخرى اعتبر التقدم أبطأ للقوات الأوكرانية، كما بدا أداء الجيش الروسى متنوعًا بحسب الوحدات التى تواجه هذا الزحف الأوكرانى، فهناك قوات على درجة عالية من الجاهزية، وهى التى قامت بعمليات دفاع متحركة وفعالة، فى حين انسحب بعضها الآخر بنوع من الفوضى وسط زيادة الخسائر الروسية التى تكبدتها أثناء الانسحاب عبر حقول الألغام.
فى النهاية؛ يمكن قراءة أن الجنوب سيظل يمثل أولوية استراتيجية رئيسية لهجوم أوكرانيا المضاد، يمكن أن تهدف من خلال السيطرة عليه إلى استعادة أكبر محطة نووية فى أوروبا، وقطع الجسر البرى الروسى الممتد إلى شبه جزيرة القرم فى البحر الأسود، فى حال نجح ذلك سيحدث فجوة كبيرة بين القوات الروسية العاملة على الأرض الأوكرانية. ويبقى أن نرى ما إذا كان الأوكرانيون سيكونون قادرين على دفع القوات الروسية إلى مواقعها قبل الحرب أو إلى ما قبل ٢٠١٤، لكن الهجوم المضاد بالتأكيد منحهم إحساسًا جديدًا بالزخم يجرى استثماره الآن بكل السبل المتاحة.