فرج فودة.. ثائر لم يمت!!
منذ أكثر من ثلاثين عاما بينما كنت أتجول في شوارع حي شبرا بالقاهرة كنت أقف طويلاً أمام إحدى اللافتات الانتخابية لأحد المرشحين لعضوية مجلس الشعب، ويكمن سر وقوفي كثيراً أمام هذه اللافتة بالذات في أنها كانت لافتة متميزة عن بقية اللافتات التي حولها، فاللافتة كانت تُظهر شخصاً سمين البدن قوياً يرفع يديه إلى أعلى وهو ممسك بهما بقوة، وفوق صورته كُتب بخط كبير وواضح "الوحدة الوطنية هي الحل" مع صورة لهلال يحتضن صليباً، ولكم أعجبتني هذه اللافتة وأنا في سن صغيرة لم أكن أعرف بعد ما هي الدولة المدنية ولا الدولة الدينية ولا العلمانية ولا مثل هذه المصطلحات، ولكنني وأنا صبي صغير أدركت أن هذا الرجل يختلف عن الكثيرين ممن حوله، ولكم أُعجبت به، وبشجاعته وببسالته وبسباحته ضد تيار التعصب والتخلف في المجتمع المصري، فالرجل رفع هذا الشعار في ذات الوقت الذي ارتفعت فيه لافتات أخرى زرقاء اللون كتب عليها "الإسلام هو الحل" وغيرها من الشعارات الدينية التي تدغدغ عواطف ومشاعر البسطاء.
لعلك عزيزي القارئ تريد أن تعرف من هو هذا الرجل الذي سبح ضد تيار التخلف في حملته الانتخابية منذ ربع قرن تقريباً؟ إنه المفكر الراحل الدكتور فرج علي فودة، الذي ولد في الزرقاء محافظة دمياط في ٢٠ أغسطس ١٩٤٥ وأُغتيل برصاص الغدر في الساعة السادسة والربع يوم ٨ يونيو ١٩٩٢.
وفرج فودة شخصية عظيمة جديرة بالتقدير والاحترام، فالرجل في حياته لم ينافق أحداً، وكان شجاعاً بفكره وبقلمه في مواجهة التعصب والتطرف ودعاة الدولة المدنية، والرجل كان سابقاً لعصره؛ لأنه رأى ما لم يره غيره من مفكري ومثقفي عصره، ولقد تنبأ فرج فوده بما نحن فيه اليوم من فوضى وأصولية ومناخ طائفي محتقن.
تصدى الدكتور فوده بقوة لشركات توظيف الأموال، ودافع عن الدولة المدنية بكل ما أوتي من قوة وقال: "إن تسييس الدين وتديين السياسة وجهان لعملة زائفة عاصرها التجاوز وتجاوزها العصر"، ولدعاة الدولة الدينية ومن يبغون خلط الدين بالسياسة كان يقول: "إن عليهم أن يجاهدوا في نفوسهم هوى السلطة وزينة مقاعد الحكم وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا الآخرين بحلم لا غناء فيه وأن يُفكروا قبل أن يُكفروا وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم وهي أنهم ليسوا وحدهم جماعة المسلمين".
وفي إعلائه لمبدأ المواطنة كان يقول فرج فودة: "في مصر أناس وأنا منهم لو خيروهم بين العقيدة والوطن لاختاروا الوطن"، وعن الانتماء للوطن قال: "إن انتماء الوطن للمواطن هو المدخل لانتماء المواطن للوطن".
وفي تعليقه على الموقف السلبي والمتردي للمثقفين المصريين قال فودة: “يتحمل المفكرون في عالمنا العربي مسئولية كبيرة فيما حدث من نمو متزايد للتيار السياسي الإسلامي، فهم من البداية قد حددوا مناطق محرمة للحوار أو النقاش، منها ما هو تاريخي مثل ما يتعلق بحوادث التاريخ الإسلامي، ومنها ما هو سياسي مثل واقع الحياة "السياسية" في الدول التي تطبق ما تدعى أنه النظام الإسلامي، ومنها ما هو فكري مثل قضايا الفصل بين الدين والسياسة وقضايا الوحدة الوطنية، وقد زاد حجم هذا التراجع مع نمو الاتجاه الإسلامي الثوري، تحسباً للمستقبل وإيثاراً للسلامة، خاصة وأن من حاول منهم مناقشة موضوعات "فرعية" مثل الحجاب وبعض قوانين الشريعة، أشبعه المتطرفون والمعتدلون تجريحاً وهجوماً بل وإهانه، وكل ذلك في تقديري لا يشفع لمفكرينا في انسحابهم من مساحات كبيرة من الحوارات تتسع يوماً بعد يوم بزيادة حجم تراجعهم، بل والاستطراد في الصمت أمام ما يعتقدون أنه صحيح أو في مواجهة ما يعتقدون أنه خطأ"، وقال أيضاً: "مصر في حاجة إلى عشرة كُتاب في الصحف القومية لديهم الشجاعة على قول لا وعلى التصدي بالمنطق والحجة وقبل ذلك بوضوح الفكر لمن يواجهون المستقبل بعقول مغلقة وجيوب مفتوحة وسيوف مشروعة مصر في حاجة إلى عشرة كُتاب يخافون على وطنهم أكثر مما يخافون على أنفسهم ساعتها سوف يتغير وجه مصر وقبلها لن يتغير أبداً".
وفي خاتمة كتابه "قبل السقوط"، والذي ناقش فيه فرج فودة العديد من القضايا، مثل مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية وهوية مصر ورفضه الدولة الدينية والسيف والحكم قال فودة: "أخيراً، فما سبق كله كان اجتهاداً قد يخطي، وقد يصيب، لكنه محاوله لتفسير ما أعتقد مبدئياً أنه مآزق تاريخي، وتوضيح لما يمكن أن يكون خافياً، دون اعتبار لما يترتب على ذلك من نقد أو هجوم أو عداوة، عن إيمان بأن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق، وأن الكلمة أحياناً قد تمنع رصاصة، لأنها بالطبع أقوى، وبالقطع أبقى".
وفي عملية خسيسة ودنيئة ونظراً لعدم قدرة المتطرفين على تفنيد حجج فرج فودة ومقارعته الرأي بالرأي والحجة بالحجة هاجموه وهو مجرد من أي سلاح إلا سلاح القلم، فواجهوا قلمه بوابل من رصاص بنادقهم، ومات فرج فودة وفارقنا بجسده، ولكن فكره الثاقب ورؤيته المستنيرة لا يمكن أن تموت، لأنه كان مؤمناً أن الكلمة أقوى وأبقى من الرصاصة.
وفي ظل محاولة البعض لطمس هوية مصر وتغيير شكل الدولة المصرية، هل نطمع أن يطلق اسم الراحل فرج فودة على أحد الميادين العامة أو حتى على أحد الشوارع تأكيداً للدولة المدنية وتخليداً لذكرى هذا المناضل الشجاع الذي اغتاله الجهلاء برصاص الغدر وقلمه في يده؟!!
ألم تثبت الأيام صدق ما قاله هذا الرجل منذ ثلاثين عاما؟ أعتقد أننا لو كنا صدقناه لما وصل بنا الحال في مصر المحروسة إلى ما وصل إليه من تديين للحياة العامة وتعصب وتطرف.
تحية من القلب لفرج فودة في ذكراه الحادية والثلاثين.