قبل طرحها| ننشر فصل من رواية "من الجاني" للكاتبة العراقية نهاية إسماعيل
خصت الكاتبة الروائية نهاية إسماعيل، الـ “الدستور” بفصل من أحدث إبداعاتها، رواية “من الجاني؟”.
وفي مطالعة للرواية حملت عنوان “الأسماك الميتة هي الوحيدة التي تسير مع التيار” تقول نهاية إسماعيل: شخوص هذه الرواية في الأبدية، لا حياة فيهم، كانوا ثم رحلوا، وبقراءتك لتفاصيل الرواية تجعلهم ينبعثون أحياءً، يدب النبض فيهم من جديد. يسردون أبطالها حكايتهم التي ركنت دهراً على رف الزمان.
يحملونك على أجنحة وقتهم ويحطون بك وسط حياتهم وأسرارهم وهم راضون ممنونون. تسبح في سماء خيالهم، تغوص في أعماقهم وتتسرب إليهم دون قيود أو خوف، يصبحون جزءاً منك وفيك، تأكل معهم على مائدة طعامهم وتستنشق هواء أجواءهم، ينادونك بالرحيل معهم من خلال رحلة أفكارهم، تستجيب لصدى خططهم، تقتنع ببعضها وترفض أخراً منها.
يجعلونك بطلاً مثلهم وأنت تتعمق بأمنياتهم وتطلعاتهم. يسحبونك كالمسحور لعالمهم بشعور غير واعي، لا إرادياً، ذلك الذي ربما يشبه عالمك الذي تحاول التخلي عنه في حين والتشبث به في أحيان أخرى تعبث مع عبثهم، تتألم لتألمهم، تنتشي لفرحهم وبهجتهم، تتعاطف مع أحدهم وتميل لصفه، تثأر له تلعن من يظمأ روحه عطشاً وحنيناً لمشاعر الحب والإخلاص التي تراها من حقه. تغفر له ذنوبه. تضمر الكره والبغض لشخصاً آخر لم تره أو تعرفه إلا من خلال الورق الملطخ بالكلمات لمجونه وتهكمه بحق من أسر قلبك وانحزت له لأنه لامس أحساساً ما مشابهاً لإحساسك وكأن الأخير أصبح في حياتنا كالإثم والخطيئة.
تبحر عبر بحور محيطات أهواءهم العاصفة وترسي بمرفأ هدوءهم وسكينتهم، صبرهم وتحملهم وكأنك تنتظر الخلاص مثلهم! فلا يدرك المرء نتائج أعماله ولا يقف عندها إلا بعد حين، إن نظر لها بعيون الآخرين الذين هم بدورهم متفاوتين بالحكم على الأمر ذاته كلاً حسب إدراكه، وعيه، ثقافته وتجربته في الحياة.
وتشدد “إسماعيل” في مقدمة روايتها “من الجاني؟” علي: هذه الرواية واقعاً لأشخاص عاشوا تفاصيلها بشهدها وعلقمها، ساروا في دهاليزها المظلمة والمضاءة، حلموا مثلي ومثلك وتطلعوا لمستقبل لا أشواك يوخز أيامهم الآتية، حدثت ومازلنا نعيش أحداثها وستبقى تحدث حتى الفناء ما دمنا مختلفين بالأفكار، الثقافات، الطباع، الميول والدين وكما يقال، هناك من يستمع إليك ويكره ما يسمع..
ــ الفرح والحزن نقيضان يشاطرننا أيامنا
تشابكت وتشعبت جذور صداقة “لميس” أكثر بصديقة عمرها هدى خصوصاً بعد ذلك اليوم الذي حفرت ثوانيه ودقائقه بمرورها أثرها العميق بذاكرة كل من تخطته عقارب زمنها، ذاق مر علقمها، حبس أنفاسه هول واقعها؛ مهما قدم زمنها كلما حضر صدى ألم نزيف جراحها وأوجاعها، أطاحت به جلد سياطها الموجعة وعلق بذكرى فكره وطأة قهرها المبرحة، لأنها أصبحت جزءاً لا يمحى من حياته فعجز مشرط دهرها عن أستأصاله، أرغم على أدراج سواد أوراقها بدرج زمانه، كابوس هدد وجوده، أرغمه أحياناً على التنصل عن جذور أصله، حيره في انتسابه لأن هدفه كان طمس هويته! رويت صداقتهما من نهر صدق العلاقة والإخلاص لها بوقت يحاول الإنسان العراقي لملمت شتاته واستيعاب مجريات الأمور من حوله وأعادت ترتيبها بما يوفر له الاحتفاظ ببعض من كرامته.
يوم عادتا بعد مقابلة “حازم” وهما تسترجعان الموقف لحظة بلحظة وكانتا مصرتان على بقائه حاضراً أطول ما يمكن وذلك لأن ساعات الفرح قصيرة في عمر الإنسان مهما طالت. استوقف ضحكاتهما وهمساتهما صراخاً ونحيب كان مصر على اغتيال فرحتهما تلك؛ بهتتا بوجه بعضهما وكلتهما تستعلم دون كلام، ما عساه أن يكون سبب ذلك العويل الذي يسمع أي أذن عبر أمتار، يدخل رعب القهر لنفس الإنسان ويحله لكومة قش في مهب الأزمات؟ كل منهما كانت تستبعد داعية، أمله ألا يكون مصدره من بيت أحدهما.
تبددت ضحكاتهما بالأثير ولم يعد لها صدى لا من قريب أو بعيد، كأنها قبل لحظات لم يكن لها وجود؛ صمتت بهجتهما، عصفت رياح القلق وكبرت خطوة بعد خطوة داخلهما، خابت ظنونهما كلما تقدمتا نحو هدفهما، تردتا بالتقدم خوفاً مما يمزج الحزن وينكل بتلك اللحظات النادرة التي تمر بعمر الإنسان.