هل تؤثر الاستراتيجية الجديدة للخارجية الروسية على علاقاتها مع دول العالم؟
علق أشرف الصباغ، الباحث الأكاديمي فى الشأن الروسي، على الاستراتيجية الجديدة التى أعلنتها روسيا حول سياستها الخارجية.
وقال الصباغ: إذا نظرنا إلى المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية التي أعلنها الكرملين أمس، سندرك أن موسكو تعود مجددًا إلى مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي، مع استبدال بعض المصطلحات، فبدلًا من الدول الاشتراكية والشيوعية ودول عدم الانحياز، تمت الإشارة إلى منظمة التعاون الإسلامي، والمسلمين، وإفريقيا، وشمال إفريقيا، أي أننا بصدد العودة إلى الوراء ووضع حدود وفواصل قائمة ليس على الأيديولوجية، بل على التقسيمات القومية والدينية التي تركز عليها موسكو، وإذا كان الكرملين يرى أن ما طرحه هو "مفهوم جديد"، فماذا كانت تفعل السياسة الخارجية الروسية طوال السنوات الثلاثين الأخيرة عمومًا، وخلال السنوات العشرين الأخيرة على وجه الخصوص؟!
وأضاف الصباغ، فى تصريحات خاصة لـ"الدستور"، أن إطلاق هذا المفهوم توافق مع تصريح مفصلي بخصوص مبادرات السلام بين روسيا وأوكرانيا، وإجراء روسي بشأن نشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضي بيلاروس، وتصريح الكرملين أكد على أن روسيا ترى حاليًا أن عملياتها العسكرية في أوكرانيا هي السبيل الوحيد لتحقيق أهدافها، مع رفض المبادرة الصينية، ورفض مبادرة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بوقف إطلاق النار، ورد الكرملين القاسي عليه بهذا الصدد، أما إعلان نشر الأسلحة النووية على أراضي بيلاروس، فهو إعلان مراوغ ودعائي، ولم يهتم به الغرب بقدر ما اهتمت به وسائل الإعلام، لأنه ببساطة إعلان لا يتعارض لا مع الاتفاقيات الدولية، ولا مع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، لأننا نعلم، كما يعلم الغرب وروسيا، بأن الأخيرة تحرك أسلحتها على أراضي دولة الاتحاد الروسية البيلاروسية وهذا من حقها، كما من حق تحريك دول حلف الناتو أسلحتها النووية على أراضي الدول الأعضاء، أي أننا هنا أمام "مناورات" سياسية وعسكرية لإثارة الفوضى والضجيج في العالم بهدف الوصول إلى مستوى وحالة "الضحية" التي تبحث عن مبررات أخلاقية، تمهيدًا للقيام بمغامرات مفاجئة وغير محمودة العواقب. وهذا يسمى مبدأ "مغامرة الضحية".
وتابع الصباغ: "في هذا السياق تحديدًا، يعيدنا الكرملين، بمفهومه الجديد القديم للسياسة الخارجية الروسية، إلى حالة مواجهة متعددة المستويات تشبه في خطوطها العريضة نفس المواجهة إبان الحرب الباردة، ولكن السؤال هنا يدور حول هل روسيا بنفس قوة وقدرات وعلاقات الاتحاد السوفيتي السابق؟! وهل هي قادرة على إدارة هذه المستويات؟! .
وأشار الصباغ إلى أن نخبة الكرملين فشلت في الوصول إلى مقاربة شبيهة بمقاربة الكاريبي عام 1962 وبالتالي، فهي تحاول الارتقاء إلى مستوى أعلى من التهديدات والمواجهات لعلها تصل إلى نفس المقاربة ولكن بطريقة أخرى أكثر مجازفة ومغامرة، حتى لو تطلب الأمر إلى ما يشبه الاحتكاك، ولكن حتى الآن لا توجد أي مؤشرات على هذا الاحتكاك إلا في التحليلات السريعة والعشوائية وفي وسائل الإعلام، وروسيا بالفعل تتحرك بميزان حساس للغاية في إطار الساحة القانونية الدولية ووفق المعاهدات المبرمة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وعلينا أن نفصل بين هذه التحركات بقانونيتها وحساسيتها وبين ما يدلي به المحللون أو تتداوله وسائل الإعلام.
وأوضح الصباغ أن المفهوم الجديد- القديم للسياسة الخارجية الروسية يركز في المقام الأول على "إمكانية استخدام موسكو الجيش لصد ومنع أي هجوم مسلح ضدها أو ضد أي من حلفائها"، و"اعتبار القضاء على أساسيات الهيمنة من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشئون الدولية، إحدى أولوياتها"، و"معارضة سياسة خطوط التقسيم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ"، و"الاهتمام بتعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع الصين والهند كمراكز قوة عالمية صديقة"، إضافة إلى صيغة مائعة للغاية، وهي أن هذا المفهوم الجديد للسياسة الروسية يطلق على الولايات المتحدة تسمية المبادر الرئيسي والمحرض الرئيسي على انتهاج الخط المناهض لروسيا، لكنه حتى الآن لا يعتبرها عدوًا لروسيا، وإلا كان من الممكن أن تتم الإشارة إلى ذلك صراحة.
وأضاف الصباغ أن هذا المفهوم الروسي الجديد- القديم يسعى بطبيعة الحال إلى التأثير على موازين القوى في العالم، ويسعى إلى حالة من الاستقطاب، والانقسام والتشرذم الدوليين، وتعتمد موسكو في ذلك ليس على إمكانياتها وقدراتها في إحداث ذلك، وإنما على التناقضات بين بعض الدول وبين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وعلى رغبة هذه الدولة أو تلك في إعادة صياغة علاقتها، سواء بروسيا أو بالغرب، وفقًا لمصالح تلك الدولة وليس رغبة روسيا أو مصالحها، ولكن في المقابل، نجد أن الغرب ليس عاجزًا أو ساكنًا أو يقف مكتوف اليدين ينتظر مصير الاتحاد السوفيتي أو مصير الإمبراطورية الرومانية، فالغرب يعمل ويصيغ خططه وإجراءاته بميزان في غاية الحساسية، وهو بالفعل لديه كل الأوراق والقدرات والإمكانية على ذلك وبدون ضجيج، ويبدو أن هناك متسعًا من الوقت أمام الطرفين لاستنزاف بعضهما البعض وهما بالفعل يستعدان ويحشدان لذلك، وسيبقى "إصبع كل منهما بين أسنان الآخر إلى أن يصرخ أحدهما"، متابعًا: "وأكرر هنا أن الغرب سيفشل فشلًا ذريعًا في الإطاحة بنظام الرئيس فلاديمير بوتين، لكنه في المقابل سينجح في إضعاف روسيا على المديين المتوسط والبعيد، وهذا الأمر يجري بهدوء وصبر أمام صراخ روسيا وحملاتها الإعلامية وسعيها الدائم للحديث عن المثل العليا بحثًا عن مبررات أخلاقية لإقناع بعض الأطراف الضعيفة والمثالية إما بالانحياز إليها أو الحياد على أقل تقدير.
ولفت الصباغ إلى أن هناك تقريرًا روسيًا صدر حول جزء يتعلق، على سبيل المثال، بالعالم العربي وإفريقيا وبعض الدول الأخرى، حيث يشير إلى أن روسيا تعتزم توجيه اهتمامها لتطوير الشراكة مع "العالم الإسلامي" و"مكافحة كراهية الإسلام"! وهناك بالفعل فقرة في "المفهوم" تشير إلى أن "روسيا تعتزم توجيه أولوية إلى تطوير التعاون الشامل والقائم على الثقة مع إيران، والدعم الشامل لسوريا، وتعميق شراكة براجماتية ومتعددة الجوانب مع تركيا والسعودية ومصر، وغيرها من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، مع مراعاة درجة سيادتها ومواقفها البناءة في سياستها تجاه روسيا". ولكن هذه الرغبة الروسية لا تزال عند حدود الصياغات الإنشائية والتمنيات، لأن هذه الدول لديها ارتباطات وعلاقات مع أطراف أخرى. وفي نهاية المطاف، روسيا ليست الاتحاد السوفيتي.
الصباغ: هناك مغازلات روسية ساذجة وقديمة
وأضاف الصباغ أن هناك مغازلات روسية ساذجة وقديمة مثل العالم للدول العربية والإسلامية على أسس دينية وعرقية فجة، فروسيا تشير إلى نفسها، في هذا "المفهوم" بأنها معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة، كما تغازل أيضًا ما أسمته بـ"دول الحضارة الإسلامية الصديقة" بأن تجعلها قطبًا ومركزًا مستقلًا في عالم متعدد الأقطاب، وهذا يشبه ما كان يعد به الاتحاد السوفيتي بعض الدول العربية أيضًا بأن يجعلها "قطبًا اشتراكيًا" في عالم شيوعي سعيد! هناك غزل ديني وقومي بدائي وخطير ومرعب للغاية. وأظن أن مراكز القرار في الدول العربية منتبهة لذلك. وفي نهاية المطاف هي التي تحدد مصالحها وتدفع ثمن اختياراتها.
واختتم الصباغ تصريحات قائلًا: في كل الأحوال، الصيغة الإنشائية الغريبة لمفهوم السياسة الخارجية الروسية الجديد- القديم، تنطلق من، وترتكز إلى، أحلام وتمنيات نخبة الكرملين التي تدرك مدى عزلتها، ومدى المخاطر المقبلة، وإمكانية انزلاقها إلى وضع يجعلها هدفًا للضرب من الجميع في حال لجوئها إلى مبدأ "مغامرة الضحية" واستخدام أي شكل من أشكال الأسلحة المحرمة دوليًا. وفي المقابل، فالغرب لا يمكنه إسقاط نظام بوتين، ولا يريد استخدام أي نوع من أنواع الأسلحة الممنوعة، ولا يسعى لتفكيك روسيا، ولا يرغب بهزيمتها هزيمة استراتيجية، لأن ذلك قد يدفع بوتين إلى إجراءات أكثر تطرفًا. وعمومًا، فانهيار روسيا ليس في مصلحة أي دولة أو تكتل، وفي المقام الأول أوروبا والولايات المتحدة، لأن روسيا المفككة والمنهارة ستشكل خطرًا على كل دول العالم، وعلى أوروبا والصين بالدرجة الأولى.