بيلاروسيا.. هل تدخل الحرب من بوابة النووى التكتيكى؟
وزارة خارجية بيلاروسيا بررت قرارها التعاون مع روسيا بالتجاوب فى عملية نشر أسلحة نووية تكتيكية روسية على أراضيها، بالقول إن مينسك تعمل على حماية نفسها من الغرب. ففى البيان الصادر عن الوزارة، أمس الأول الثلاثاء، أوضحت أيضًا أنها على مدى العامين ونصف العام الماضى تعرضت جمهورية بيلاروسيا لضغوط سياسية واقتصادية وإعلامية غير مسبوقة، من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفائهما فى حلف شمال الأطلسى، وكذلك من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى. حتى وجدت نفسها فى ظل هذه الظروف والمخاوف المشروعة والمخاطر الناتجة عنها على أمنها القومى مُضطرة للرد بتعزيز قدراتها الأمنية والدفاعية، وهى ترى أيضًا أنها لا تزال تقف فى نقطة منتصف، كون الخطط الروسية المزمع تنفيذها على أراضى بيلاروسيا لا تتعارض مع الاتفاقيات الدولية لحظر الانتشار النووى، فالأسلحة المشار إليها لن تكون لمينسك نفسها سلطة السيطرة عليها.
ليست المرة الأولى خلال الحرب الروسية الأوكرانية التى تلوح فيها موسكو باستخدام السلاح النووى عمومًا فى المعارك الدائرة، فالأسبوع الأول من عمر الحرب شهد أشهر مشاهد التصعيد فى هذا الصدد، حين خرج الرئيس الروسى أمام وسائل الإعلام لإصدار توجيه رئاسى فى اجتماع مع القادة العسكريين، إلى وزير الدفاع سيرجى شويجو بوضع أسلحة الردع الاستراتيجى ومن بينها الأسلحة النووية، على أهبة الاستعداد واختبار شامل لجاهزيتها. ثم تكررت فيما بعد ذات اللهجة فى العديد من فصول العام الأول من الحرب، بل دخل المفكرون الروس ومحللوها العسكريون والسياسيون على خط التنظير المتوقع لمسار الحرب، بقول شهير تردد كثيرًا مفاده أن الدولة التى تملك أكبر مخزون نووى فى العالم لن تسمح بهزيمتها فى «حرب تقليدية» وليس واردًا فى حساباتها أن تتجرع مثل هذا المآل فى حين مخازنها مكدسة بمختلف الأسلحة النووية وتصنيفاتها وأنواعها والصواريخ والقاذفات القادرة على إنفاذها.
الثابت هذه المرة أن إطلاق الحديث الروسى والبيلاروسى أيضًا عن جاهزية الرد بالأسلحة النووية التكتيكية جاء بعد الإفصاح البريطانى غير المفهوم عن نية لندن تزويد أوكرانيا بقذائف اليورانيوم المنضب. ورغم النفى اللاحق لوزارة الدفاع البريطانى أن تكون هناك علاقة بين اليورانيوم المنضب والسلاح النووى، وتأكيدها أن تلك القذائف تستخدم منذ عقود، فإن الأمر به من الالتباس الكثير، وهو على الأقل ما استدعى بعد خمسة أيام فقط من الإعلان البريطانى التلويح الروسى البيلاروسى المشترك الذى بات حديث الساعة، واستدعى بجديته هواجس كانت قد خفتت قليلًا خلال الأشهر الماضية. هذا الأمر له ارتباط بصفقة دبابات «تشالنجر» التى تعتزم لندن تزويد كييف بها، والقذائف المشار إليها المعدة كى تصاحب تلك الدبابات يرى الجيش البريطانى أنها ذخائر بغاية الفاعلية لتدمير الدبابات والمدرعات الحديثة المعادية. وبالنظر إلى خطورة اليورانيوم المنضب الذى أثار حفيظة موسكو على الفور، فهو بالفعل مثير لجدل كبير فيما له علاقة بآثاره الصحية والبيئية المرتبطة باستخدامه، لكن أباطرة صناع الذخائر فى العالم وجدوه مادة نموذجية بسبب كثافته العالية ما يجعله مثاليًا لاختراق المدرعات والدبابات. هناك دول عديدة قامت منفردة بتقييد وحظر استخدام ذخائر اليورانيوم المنضب، بعد ما ثبت أن إطلاق تلك الذخائر ينتج غبارًا وجزيئات صغيرة من اليورانيوم فى الهواء، الأمر الذى يؤدى بعد استنشاقها من قِبل الناس أو الحيوانات إلى مشاكل صحية طويلة الأمد، بما فى ذلك تلف الكلى وأنواع خطيرة من السرطان، فضلًا عن التلوث الحتمى للبيئة، حيث تبقى الجزيئات الصغيرة فى التربة فترات طويلة من الزمن، ما قد يلوث مصادر المياه والتربة والحياة النباتية فى المناطق المصابة بهذا الغبار وعلى نطاق جغرافى واسع.
جدية رد الفعل الروسى تجاوز التلويح هذه المرة، عندما تم بالفعل بشكل مفاجئ إرسال عشر مقاتلات إلى مينسك تستطيع حمل أسلحة نووية تكتيكية. فى ظل تقديرات غربية ترى أن الروس يواجهون تعثرًا، ولم يستطيعوا تحقيق الأهداف العسكرية على النحو الذى أرادوه، وقد يتشارك معهم الجيش الروسى الذى بات مدركًا أن الحسم العسكرى قريب المدى لن يتم فى ظل ثبات وتيرة المعارك دون تحقيق أى تقدم ملحوظ لكلا الطرفين. لذلك ربما يرى الكرملين أن ذريعة «اليورانيوم المنضب» قد أتاحت له الاستخدام العلنى لأراضى بيلاروسيا كنقطة انطلاق وتجهيز لقوات نوعية روسية ستقاتل قريبًا فى أوكرانيا، حيث يعد هذا القرار بمثابة الخطوة الأخيرة نحو دخول مينسك الصراع بشكل مباشر، لمحاولة حسم المعارك العصية على موسكو عبر تشتيت الانتباه بفتح جبهة جديدة لم تتجهز لها كييف بعد. وهناك فى الداخل الروسى من يرى أن الحديث عن الأسلحة النووية التكتيكية له علاقة بتأمين شبه جزيرة القرم، بعد التأكيدات التى وصلتها أن الهجوم الأوكرانى المضاد التى تعد له كييف، ستكون وجهته القرم وليست الجبهة الشرقية فى إقليم الدونباس.
الأسلحة النووية التى تمتلكها روسيا وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولى لبحوث السلام «SIPRI» تقدر بنحو «٤٥٠٠ رأس نووية» تحتل بها المرتبة الأولى فى العالم. وتقدر الاستخبارات الأمريكية أن ضمنها ما يقدر بـ«٢٠٠٠ سلاح نووى تكتيكى»، يمكن فى معظم الأحيان، وفق حجمها أو مداها أو استخدامها ضد أهداف عسكرية محدودة، أن تسحق منطقة الهجوم بأسرها أو التسبب فى تداعيات إشعاعية واسعة النطاق. فالسلاح التكتيكى عادة يأتى قصير المدى، ومزودًا برءوس نووية صغيرة تدعمه أنظمة توجيه ورأس حربية قوية، فيما يبلغ مداه البرى أقل من ٥٠٠ كم بينما يصل جوًا أو بحرًا إلى ٦٠٠ كم تقريبًا. يمكن بالطبع تحميل الرءوس الحربية النووية التكتيكية على أنواع مختلفة من الصواريخ، التى تحمل عادة رءوسًا تقليدية مثل الصواريخ المجنحة، أو عبر قذائف المدفعية الميدانية.
الرئيس بوتين يرى ما سيقوم به لا يمثل خرقًا غير اعتيادى، فالولايات المتحدة من وجهة نظره تفعل ذلك منذ عقود، هى تنشر منذ زمن طويل أسلحتها النووية التكتيكية على أراضى حلفائها كما تحدث فى مقابلته الأخيرة للتليفزيون الروسى. لذلك قرر أن يقوم بالأمر نفسه، وحصل على موافقة مينسك، ويعتزم المضى قدمًا فى تدريب الطواقم اعتبارًا من ٣ أبريل، على أن ينجز بناء مستودع خاص للأسلحة النووية التكتيكية على أراضى بيلاروسيا فى الأول من يوليو المقبل.