رسالة الإمام.. دعوة لمكارم الأخلاق والتدين الوسطى وعشق مصر
منذ اللحظة الأولى التى يظهر لنا فيها تتر مسلسل «رسالة الإمام» نكتشف أننا أمام مسلسل مختلف، فهو معزوفة فنية عالية المستوى تجذبنا لمتابعة حلقاته، واستكشاف أغواره، واستلهام العبرة منه، فمنذ اللحظة الأولى ندرك أننا أمام مسلسل تاريخى ودينى مختلف، ومن طراز رفيع أثبت جودته ونجاحه منذ بداية شهر رمضان الكريم، بعد أن افتقدنا وجود مسلسل دينى أو تاريخى منذ سنوات طويلة فى الدراما الرمضانية التى كانت لا تخلو منه.
بل إننا فى الحقيقة، ومع التقدم التكنولوجى فى الدراما والسينما فى العالم خلال السنوات الأخيرة، كنا نتوق إلى مشاهدة مستوى عالٍ من الدراما التاريخية والدينية التى نستلهم منها الدروس والعظات والحِكم، والتى يمكن أن نستقى منها ثقافة تاريخية ودينية تضيف إلى ثقافتنا وترتقى بوعينا، خاصة إذا ما كانت تقدم أحداثًا مبنية على أحداث حقيقية وشخصيات نعتز بها ونفتخر بأنها مصرية، وأنها تركت أثرًا فى مسيرة تاريخنا العريق، أو شخصيات عاشت بمصر أو أحبت مصر، ولا شك أن تاريخنا حافل بذخائر وكنوز وحقب وشخصيات نعتز بها ونفتخر ونتعلم منها، وفيها نماذج يمكن أن نقتدى بها أو تعطينا أمثلة لبطولة أو سبق أو ريادة أو دور مهم وفعال ومؤثر أحدث تأثيرًا كبيرًا فى زمنه أو ترك بصمة فى تاريخ مصر، أو شخصية فذة استطاعت أن تحدث تغييرًا إيجابيًا أو سباقًا فى تاريخنا الطويل الذى هو مهد الحضارة الإنسانية.
وهذا العام استطاعت الشركة المتحدة أن تقدم لنا ١٧ عملًا دراميًا خلال شهر رمضان الكريم، حرصت فيه على التميز والتنوع، فمنها المسلسل التاريخى والوطنى والأكشن والاجتماعى والكوميدى.
وخلال الشهر الكريم سأقدم لقارئ «الدستور»، ككل عام خلال الشهر الكريم، رؤيتى لأهم المسلسلات التى شاهدتها فى تقييم ونقد للماراثون الرمضانى الذى يبث حاليًا للمشاهدين، وأبدأ بمسلسل «رسالة الإمام» الذى أجد أنه يقف خارج المنافسة لأنه يقدم لنا عملًا تاريخيًا دينيًا متقنًا وجاذبًا، ومستقى من شخصية حقيقية ذات أهمية كبيرة فى التاريخ، وذات تأثير دينى كبير، وهى شخصية الإمام الشافعى، ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة، واسمه محمد بن إدريس الشافعى، ويركز المسلسل على فترة وجوده فى مصر التى حضر إليها فى ١٩٨هـ، أو ٨١٣م، والتى عاش فيها سنواته الأخيرة حتى وفاته بها، وهو صاحب المذهب الشافعى فى الفقه الإسلامى ومؤسس علم أصول الفقه، والتى ألقى دروسه بها فى جامع عمرو بن العاص وتتلمذ على يديه العديد من العلماء النابغين المصريين، والتى قال عنها بما يؤكد توقه إليها: «اللهم احفظ مصر وأهلها واجعل أهلها فى رباط إلى يوم الدين»، وذلك على لسان الفنان خالد النبوى الذى توحد مع شخصية الإمام الشافعى وجسدها ببراعة فائقة تحسب له، فهذا يعتبر أهم دور فى مسيرته الفنية المتنوعة، حيث غير من جلده تمامًا هذا العام من خلال أداء شخصية الإمام الشافعى، والتى يتضح من خلال إتقان الأداء أنه درسها وتقمصها إلى حد التوحد معها، حتى إنه من الصعب أن نتصور فنانًا آخر غيره يؤديها، ولهذا فإننا يمكن أن نقول أيضًا إن المسلسل يبدو وكأنه معزوفة فى عشق مصر، حيث قال الإمام الشافعى بمجرد دخوله وركبه إلى أرض مصر: «لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر، ومن دونها أرض المهامة والقفر، فوالله لا أدرى أللفوز والغنى، أساق إليها أم أساق إلى القبر».
ومن أقواله المأثورة التى قالها ليلة دخوله إلى مصر فى مشهد يلخص رهافة إحساسه بالفقراء، وجسّده خالد النبوى فى أداء بارع يجعلنا نؤكد أنه الفنان المناسب فى المكان المناسب لهذا الدور المهم، والذى تم إنتاجه بإمكانات ضخمة تتناسب مع أهمية الشخصية وضرورات المسلسل التاريخى- فحينما جلس ليأكل من الوليمة التى أعدت خصيصًا على شرفه، حينما رأى أطفالًا فقراء يبحثون عن بقايا طعام من الوليمة ليأكلوه، فإذا بأحد الحراس ينهرهم ويطردهم جوعى بلا طعام، وهنا نجد الإمام الشافعى يعزف عن الطعام ولا يلمسه، وحين يطلب منه ابن الوالى المتعجرف أن يذكر للحاضرين إحدى حكمه يقول له: «إن الأحمق يعيش ليأكل، والعاقل يأكل ليعيش، والمؤمن يعيش ليعبد الله»، وهذه إحدى رسائله الفذة.
وأظن أن اختيار «النبوى» ليقوم ببطولة هذا المسلسل يرجع إلى براعته السابقة فى دراما ناجحة سبقت هذا الدور، هى «ممالك النار»، من إخراج الأمريكى بيتر ويبر.. إن هذا المستوى العالى من الدراما المصرية يمكن فى تقديرى أن يكون مقدمة لإنتاج مسلسلات تقدم فى الخارج عن سماحة الإسلام ومبادئه النبيلة ودعوته إلى مكارم الأخلاق، وتصحيح الصورة المشوهة وغير الصحيحة عنه. وفى حلقات المسلسل نجد عبارات بليغة تطرب الأذن وترتفع بالوعى إلى مستوى فكرى أعلى ويردده بأسلوب فنى راقٍ الفنان خالد النبوى. إن هذا المسلسل منذ الحلقة الأولى يسمو بالمشاعر فيأخذنا إلى رحابة الفقه الإسلامى من خلال الفقيه الإمام الشافعى، وهو فى تقديرى يقف فى المقدمة، فهو من أفضل الأعمال التى يتم عرضها حاليًا.
و«رسالة الإمام» مأخوذ عن وقائع حقيقية فى حياة الإمام الشافعى، وينقلنا المسلسل إلى رحابة الإسلام وأيضًا إلى الصراعات التى كانت سائدة فى هذه الفترة التاريخية المهمة فى تاريخ الدين الإسلامى فى عصر ثالث الأئمة الأربعة الإمام الشافعى، وحياته فى مصر خلال الست سنوات الأخيرة من حياته وتعلقه بها. ومنذ اللحظة الأولى، أيضًا، نجد أنفسنا أمام مستوى عالٍ من الإخراج للمخرج السورى البارع الليث حجو، الذى قدم كادرات رائعة الجمال يصلح كل منها «كارت بوستال» فيه خير دعاية لمصر القديمة. والإخراج ككل على مستوى عالٍ من الحرفية الفنية، كما يقدم لنا مناظر خلابة لمصر وحواريها وأزقتها، خاصة المشهد الرائع الذى رأيناه لدى دخول الإمام إلى أرض مصر التى لا يقدمها بهذا الإبهار إلا من كان محبًا لمصر إلى درجه العشق، كما نلاحظ أيضًا جهدًًا كبيرًا فى كتابة السيناريو الذى قامت به ورشة فنية أشرف عليها المؤلف محمد هشام عبيه لكتابة هذه الحقبة التاريخية المهمة، مع الاستعانة بمراجع تاريخية ومراجعة من مجمع البحوث الإسلامية، بالأزهر الشريف، ومراجعة لغوية للسيناريو لأنه باللغة العربية الفصحى التى تم تدريب الممثلين عليها، وتم تدريب الفنانين أيضًا على ركوب الخيل والمبارزة.
واستطاعت الشركة المتحدة المنتجة للمسلسل بهذا الإنتاج الضخم أن تأخذنا بسلاسة إلى دنيا معرفة وإدراك التاريخ الإسلامى من خلال سيرة هذا الإمام المليئة بالدروس والعبر الدينية، فهو ثالث الفقهاء أو الأئمة الأربعة: أبوحنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل، وكنا قد اشتقنا إلى مسلسل دينى وتاريخى متميز ومتقن نراه ونستمتع به خلال الشهر الكريم منذ سنوات، وأتمنى أن تواصل الشركة المتحدة اتجاهها إلى إنتاج مسلسلات وأعمال فنية تاريخية ودينية متميزة ومتقنة تضيف إلينا فى كل منها رسائل إيجابية ونورانية فى القيم والحكم والإخلاق.
إن مسلسل الإمام الشافعى كما رأيته من خلال الحلقات الأولى لا يحمل رسالة واحدة، لكنه يحمل رسائل عديدة وكثيرة فى مكارم الأخلاق والقيم الإسلامية والإيمان الوسطى، وفى كل مشهد يظهر فيه الإمام الشافعى نجده يقول حكمة أو درسًا أو تفسيرًا أو عبارة بليغة تعلمنا قيمة مهمة يستقيها من إيمانه العميق. وإن عناصر المسلسل كلها تدعونى للقول إنه مسلسل شديد الجاذبية لأنه اجتذبنا إلى تاريخ الشخصية التى يقدمها، وكرست الشركة المتحدة المنتجة له جميع الإمكانات التى تجعله مسلسلًا ناجحًا قادرًا على اجتذاب المشاهدين مع وجبة دسمة من الدراما المتنوعة قدمتها هذا العام، وشارك فى الإنتاج شركة ميديا هب لسعدى وجوهر.
وأستطيع القول بشكل عام إنه فى هذا العام هناك نقلة فى جودة الأعمال المقدمة على القنوات، فلا إسفاف ولا فجاجة ولا تسطيح للموضوعات، حتى فى المسلسل الكوميدى نجد محاولة لإشاعة البهجة والفرحة مع أيام وليالى الشهر الكريم.
وإذا كنت قد بدأت باختيار مسلسل «رسالة الإمام»، لأهمية الحقبة التاريخية التى يقدمها، ولأننى أميل إلى مشاهدة الدراما المأخوذة عن أحداث حقيقية لأنها تتميز بالمصداقية والجاذبية، إلا أنه أيضًا لأن المسلسل مختلف ومتميز ومتقن وفيه عشق وحب واضح لمصر، ويبين فقه الإسلام لدى الإمام الشافعى فى منظومة فنية عالية الجودة وجاذبة ومشوقة، وهو يقدم فى ١٥ حلقة فقط. إلا أننى أرى أن الإعلانات بكثافة وتقطيع الحلقة كل عدة مرات يضعف من تركيز المشاهد لمسلسل تاريخى ودينى على درجة كبيرة من الأهمية فى الإضافة إلى ثقافة المشاهد الدينية والتاريخية، وكان يمكن فى هذا المسلسل تجميع الإعلانات بعد التترات وقبل نهاية كل حلقة. وهناك أيضًا ملاحظة مهمة لدىّ، حيث نلاحظ رقيًا فى تصميم ملابس الإمام، مما أضاف إلى أهمية الشخصية ورقيها فى التعاملات اليومية والسلوكيات والأخلاق النبيلة، وأيضًا كانت هناك براعة فى إدارة الممثلين والمجاميع، وشارك فى بطولة الحلقات الفنانون جمال عبدالناصر الذى يشعرنا بحضوره واقتداره كممثل قدير، وشارك أيضًا نضال الشافعى، وأروى جودة وخالد أنور وجيهان خليل وسلمى أبوضيف، وممثلون من الدول العربية، أبرزهم السورى خالد القيش وحمزة العيلى وهافانا حمدى والأردنية فرح بسيسو، وهى توليفة ناجحة من الممثلين أسهمت فى إنجاح العمل ككل.
وإذا تحدثت عن عشق مصر، فإن ذلك كان واضحًا فى تأثيرها على فكر الإمام ورسائله، فمن الواضح أنه كان لمصر تأثير كبير على الإمام الشافعى ليس فقط لتعلقه بها، ولكنها ألهمته حالة من النور الداخلى الذى سكن قلبه وروحه، فوجدناه يتطلع بحب إلى سماواتها وإلى صحرائها وإلى مزارعها وبيوتها ونيلها وإلى أهلها بكثير من التعاطف والشوق والشغف والمحبة، وأن هناك حالة من التعاطف الشديد مع فقراء مصر، ومن المعلوم أيضًا أن تأثير مصر كان ظاهرًا فى تفسير وفقه الإمام الشافعى، لما فيه من متغيرات عديدة عن الفترة التى عاشها قبل ذلك.
وأستطيع أن أقول إنه إلى جانب تقديم فقه الإمام الشافعى، فإن من أهم الرسائل التى أوصى بها الإمام خلال إقامته بمصر أهمية العلم وتدوينه لينتفع به الذين يأتون بعده، وصدق الإمام الشافعى فيما قاله، فإذا كان قلبه قد توقف بوفاته فإن علمه قد بقى لينتفع به الناس من بعده.