هل ينجح الرئيس الصينى مع روسيا.. فى كسر الهيمنة؟
زيارة الرئيس الصينى «شى جين بينج» ، إلى موسكو، هذا الأسبوع، هى الزيارة الخارجية الأولى للرئيس شى فى مستهل ولايته الثالثة، وقد قصد كلا الرئيسين أن تخرج محملة برسائل عدة للعالم الذى كان يرقب ويتابع جملة عناوينها ويدقق فى دلالات التفاصيل، من أجل استشراف ما هو قادم على المسرح الدولى، وما يمكن أن تخطط له الدولتان على صعيد الملفات الأبرز، التى بالتأكيد ستبدأ من الحرب الروسية- الأوكرانية ولن تقف عند حدود الرغبة المشتركة فى كسر هيمنة «الدولار» ونظام «سويفت» المالى. الرئيس الصينى أكد، دون مواربة، خلال أيام زيارته إلى موسكو؛ أن بلاده ستواصل جعل العلاقات مع روسيا أولوية، معتبرًا أن البلدين قوتان كبيرتان وجارتان، فضلًا عن «شراكاتهما الاستراتيجية»، فيما تسعى الدولتان لتعزيز تحالفهما فى مواجهة الولايات المتحدة التى ألقت بثقلها فى دعم أوكرانيا عسكريًا.
أعطت تلك الزيارة للرئيس الروسى؛ فرصة الظهور بجانب شريك مهم فى وقت يواجه عزلة متنامية من المعسكر الغربى، خاصة بعد أن صدرت بحقه، مؤخرًا، مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب. والرئيس بوتين مدرك تمامًا أن فرض العزلة بتلك الطريقة وتعزيزها بقرارات وإجراءات إضافية، مبعثها تقويض نجاح روسيا فى التصدى واستيعاب سلاح العقوبات المشرع فى وجهها، منذ بداية الحرب الروسية- الأوكرانية، لذلك لم يكن مستغربًا فى زيارة الرئيس الصينى لموسكو، تأكيد الكرملين أن التعاون الاقتصادى بين بكين وموسكو «أولوية» بالنسبة إلى روسيا، فى وقت تستهدف روسيا بعقوبات دولية بالجملة بسبب غزوها أوكرانيا. وأن يأتى هذا مصاحبًا لإعلان شركة «غازبروم» الروسية قبل ساعات من وصول الرئيس شى إلى موسكو، عن إتمام تسليم شحنات يومية قياسية إلى بكين عبر خط أنابيب سيبيريا، الذى يمر فى الشرق الأقصى الروسى باتجاه شمال شرق الصين. وفى السياق، أكدت الشركة العملاقة أنها تمكنت من تحقيق رقم قياسى جديد، يعزز ويطور إمدادات الغاز اليومية إلى الصين، والمخطط لها أن تستمر خلال الفترة المقبلة على ذات الوتيرة دون انقطاع.
الرئيسان الروسى والصينى وقّعا فى موسكو، وثيقتين لتعميق العلاقات الروسية- الصينية، وخطة لتطوير التعاون الاقتصادى حتى العام ٢٠٣٠. الوثيقة الأولى اعتبرت بيانًا مشتركًا حول تعميق الشراكة والتفاعل الاستراتيجى، بما يؤكد ويتواءم مع الدخول فى حقبة جديدة. أما الوثيقة الثانية فهى بيان مشترك شمل كل بنود خطة التنمية للمجالات الرئيسية للتعاون الاقتصادى بين البلدين وصولًا للعام ٢٠٣٠. وتعكس الوثيقتان مستوى العلاقات المتطور بين البلدين، كما تتضمن هدفًا رئيسيًا للجانب الروسى على الأقل بمضاعفة حجم التجارة بينهما. الرئيس الصينى وهو يؤكد فى أكثر من مناسبة سابقة، ويعود ليتناول ذات المفهوم «الشراكة الاستراتيجية» للعلاقات مع روسيا، يعكس دون مواربة إصرار البلدين على المضى إلى تدشين «عالم متعدد الأقطاب». خاصة بعد وصول علاقة موسكو بواشنطن إلى الحرب غير المباشرة، على خلفية الدعم الصريح والمستدام لأوكرانيا طوال شهور الحرب مع روسيا، وليس بعيدًا ما جرى بين بكين وواشنطن خلال نفس الفترة، وكان سيؤدى إلى شفا الصدام حول إشكالية جزيرة تايوان، ووضعها السياسى والسيادى مستقبلًا.
القضية الأبرز التى تكررت بإلحاح على مدار الجلسات التى شهدتها الزيارة، وعبر كواليسها ونقاشاتها الجانبية المهمة، تمثلت فى كيفية بناء العالم بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، وضرورة خروج «التعددية القطبية» من رحمها، فيما ترى الدولتان جاهزيتهما لذلك الآن دون إبطاء. فهما وفق الشراكة الاستراتيجة الجديدة يمثلان جبهة مشتركة بوجه الغرب، ويرفضان هيمنته، ويبحثان، وفق مفهومهما، عن صياغة علاقات دولية أكثر ديمقراطية. كما سجلا اعتراضهما على دفع المشهد الدولى نحو «حرب باردة» جديدة، خاصة والبلدان عضوان دائمان بمجلس الأمن الدولى، وطرفان فى «مجموعة العشرين» ومجموعات رئيسية أخرى على الساحتين العالمية والإقليمية. وفى الخلفية ترى كل من روسيا والصين أنهما بصفتيهما الدولتين المؤسستين لـ«منظمة شانغهاى»» للتعاون، دفعتا الشراكة متعددة الأطراف إلى الأمام، ووسعتا من تركيز عمل المنظمة من مجالات الأمن إلى آفاق السياسة والاقتصاد والتبادلات الشعبية والثقافية. كما لعبت بكين وموسكو فى إطار آلية «بريكس»، دورًا نشطًا فى دفع إصلاحات الحوكمة الاقتصادية العالمية، ففى هذا السياق مكّنت جهود الدولتين الصينية والروسية عديدًا من الاقتصادات الناشئة والدول النامية، من أن يكون لها رأى أكبر على المسرح العالمى، خاصة أن تقارير اقتصادية دولية عديدة باتت تصف «الاقتصادات الناشئة»، بأنها أصبحت المحرك الجديد للعولمة الاقتصادية فى عالم اليوم.
لكن يبقى أن لهذا المشهد الاستراتيجى الذى يبحث عن مساحات نفاذ جديدة، هناك من يقف له على الجانب الآخر يخطط لكثير مما يمكن أن يقطع الطريق عليه، أو على الأقل لن يترك له الساحة وحده كى تتمدد الرؤية الصينية- الروسية. فالمفارقة أن فى ذات اليوم الذى كان الرئيس الصينى شى جين بينج فى موسكو، وصل رئيس الوزراء اليابانى «فوميو كيشيدا» إلى كييف ليلتقى الرئيس الأوكرانى، حيث أفادت وزارة الخارجية اليابانية، فى بيانها الرسمى، بأن كيشيدا سينقل إلى الرئيس زيلينسكى احترامه لشجاعة ومثابرة الشعب الأوكرانى الذى يدافع عن وطنه بقيادته. كما عبر كيشيدا بالفعل عن التضامن والدعم المستمر لأوكرانيا من جانب اليابان ومجموعة «الدول السبع»، التى تستضيف اليابان اجتماعاتها لهذا العام. رئيس الوزراء اليابانى كان قبل تلك الزيارة، الوحيد من بين قادة الدول السبع، الذى لم يزر أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسى، وسيكون بتلك الزيارة أول رئيس حكومة يابانى يزور منطقة نزاع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والجدير ذكره أن طوكيو انضمت إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وأعلنت فى فبراير الماضى عن مساعدة جديدة بقيمة ٥.٥ مليار دولار لأوكرانيا، فى حين لم تقدم اليابان لكييف مساعدة عسكرية، إذ إن ذلك محظور بموجب دستور البلاد السلمى.
تبقى الولايات المتحدة والدول الغربية، الذين يعتبرون دعم بكين لموسكو لا يسمح لها بأن تكون «وسيطًا ذا مصداقية»، فيما اتهام واشنطن للسلطات الصينية بأنها تدرس تسليم أسلحة إلى روسيا لا يزال معلقًا، وهو ما تنفيه الصين بحزم طوال الوقت. وها هى بكين تمضى بخطى متقدمة فى طريق «كسر الهيمنة» الغربية، فهل تنجح فى ذلك، وهل الطريق صار معبدًا أمامها كما تحاول روسيا بدأب أن تصوره لها؟