عن مسرحية «ابقى افتكرنى».. عقارب الساعة لا تسير للوراء
ندور فى دائرة الوقت بلا هدف واضح .. ندعى أننا نسعى خلف الهدف ونتفنن فى رسم مخططات ووضع برامج وأساليب ونظم للوصول إلى الهدف .. ما هو هذا الهدف يا ترى؟ وهل يختلف بين شخص وآخر؟ حقيقة الأهداف سيان .. لأنها تنتظر فى آخر الطريق فاتحة ذراعيها على آخرهما .. تستقبلك بكل حفاوة ومحبة واشتياق، ثم تفاجئك بسؤال تافه وأنت قابع فى أحضانها تربت على كتفك وتحاول تهدئة أنفاسك التى انقطعت فى رحلة السعى .. وبملء فيها وبكل جرأة وبرود تسألك: ماذا بعد أن وصلت إلى هدفك؟
تبحث فى رأسك عن إجابة تليق بهذا السؤال غير المتوقع والبديهى .. لا تجد!
تبحث وتبحث وتخونك الكلمات وتتبعثر الحروف فى فمك حتى يسيل لعابك ولا تجد الإجابة الوافية، وتكتشف أنك لن تعرف طريق العودة، لأن عقارب الساعة لا تعرف السير للخلف، كما أنك لم تخطط إلا للوصول إلى الهدف ولا تعرف أكثر من ذلك .. والنتيجة أنك تستسلم للوقوف صامتًا فى مكانك والعالم كله يدور حولك وتحاول مرات ومرات أن تخبرهم تجربتك، أن تدفعهم للإجابة على السؤال الذى فشلت فى إجابته.. ماذا بعد؟
والنتيجة أن الوقت يأكلهم أمامك وأنت مكتوف الأيدى تجتر ذكرياتك من خلالهم. الذكريات التى احتفظت بها فى رحلة السعى والتى اخترت منها ما لا يؤلمك، أما الذكريات المؤلمة فقد قذفتها فى ثقب أسود فى بوتقة محكمة الغلق تسمى النسيان .. قد تظهر فى شكل مرضى مثل الزهايمر، وقد تحدث طواعية أيضًا بما يعرف فى علم الطب النفسي باسم النكران الذى نلجأ إليه لحماية أنفسنا من الألم والوجع النفسي الذى تسببه تلك الذكريات.
هذا بالضبط ما سردته المبدعة رشا عبدالمنعم فى مسرحيتها بعنوان (ابقى افتكرنى) والتى ساعدت فى كتابتها الفنانة سناء سنية عبدالسلام ويتم عرضه حتى ٩ مارس فى المسرح المكشوف بالهناجر.
والجميل أن معالجة حالة النكران أو النسيان والزهايمر صورها الفنان محمد فوزى من خلال العرائس التى قامت بدور الذات التى تعيش الماضى ولا تستطيع نسيانه. بينما يحيى الجسد الآدمى حالته البشرية الجوفاء التى تركت حياتها بكاملها فى ثقب النسيان الأسود وراحت تعيش ما حلمت أن تعيشه فيما لو حدثت معجزة وعادت عقارب الزمن إلى الوراء.. هكذا نجح المخرج محمد فوزى والمخرج المنفذ احمد مصطفى فى خلق توليفة متناغمة بين العالمين بكل أدوات المسرح التى منحت العرض ثراء فنيًا رائعًا، بداية من اختيار الموسيقى والأغاني والاستعراضات التى تنقلنا بين العصور وتشعرنا بالتطور
وكأنه أراد التأكيد على رفع قبعة النسيان مع كل عصر وأن هذه النعمة وحدها تستحق الشكر والامتنان عن كل النعم التى منحنا الله إياها.. فضلًا عن اختيار طاقم ممثلين متمرسين فى خلق أجواء درامية وكوميدية معًا، وفى أداء متميز لأدوار تتأرجح بين الشباب بحيويته والعجز بخرفه، مؤكدين على موضوع المسرحية الذى لم يلتفت إليه أحد من قبل وقد تم تقديمه بفلسفة واعية ومتقنة.