المستحيل ليس مغربيًا.. كيف صنع «أسود الأطلس» معجزة مونديال ٢٠٢٢؟
«فى كل مكان ستجد علم المغرب، وستسمع أغنيات جمهوره الجميلة، لكن العجيب أن أكثر ما ستسمعه من هتافاتهم هنا فى الدوحة أغنية: (جيبوها)، التى يقصدون بها التتويج بالمونديال».
النص السابق كان جزءًا من تقرير نشرناه فى عدد «الدستور» الصادر يوم الثلاثاء ٢٢ نوفمبر الماضى، وعايشنا من خلاله ما يحدث على أرض الدوحة فى الليلة التى سبقت العدد.
حينما وجدت الجمهور المغربى يحدث الجمهور الكرواتى قبل مباراتهما بحماسة شديدة، ويتوعد منتخب لوكا مودريتش ورفاقه، كما ذكرنا فى التقرير السابق، قلت: «هذا طموح مشروع»، لكننى وجدت نفسى بلا تفكير وكرد فعل تلقائى أضحك بسخرية، حينما سمعت صيحاتهم تعلو وتغزو مترو الدوحة بأغنية «جيبوها يا لولاد».
أعرف أن المغرب منتخب قوى للغاية، وقادر على خلق ندية أمام خصوم كبار، وكنت ضمن المؤمنين بقدرته على العبور إلى الدور الثانى، لكنى، وكما الجميع، لم يخطر فى بالنا لحظة واحدة أن هذا المنتخب سيكون ضمن الأربعة المرشحين للتتويج بالمونديال، وسيلعب ٧ مباريات كاملة فى الدوحة، فكانت ضحكتى العفوية هى المنطق ذاته.
قلت بداخلى: «هل جُن المغاربة؟.. ماذا أصاب هؤلاء؟»، وأذكر حينها المشجع الذى وقف يسأل نظيره الكرواتى: «هل تعرف النصيرى؟»، ولما رد الآخر بـ«لا»، تعصب المغربى وكأن الكرواتى يجهل الظاهرة رونالدو، ثم قال له بنبرة غاضبة: «كيف لا تعرف أفضل مهاجمى إشبيلية وأنت ترتدى قميص زميله فى الفريق راكيتيتش؟.. اسأله من هو يوسف النصيرى وسيجيبك ماذا بمقدوره أن يفعل!».
لم تكن حماسة هذا الشاب المغربى وولعه بحب بلاده، وإيمانه بأن «النصيرى» قادر على فعل المستحيل، سوى محل لضحك وسخرية كل المحايدين فى المكان، حتى بعض المغاربة أنفسهم، الذين خاطبوه ليهدأ ويتجنب التضخيم.
ووجدتنى أتذكر هذا المشجع حينما قفز «النصيرى» فى السماء محلقًا ليخطف أغلى هدف فى تاريخ العرب، ويُسقِط أعظم أسطورة تهديفية فى العصر الحديث كريستيانو رونالدو تحت أقدامه باكيًا، فى مشهد لم يتجرأ أحد حتى على أن يتخيله أو يرسمه بعقله لمجرد الانتشاء، عدا هذا الشاب الذى وددت لو قابلته واعتذرت له: «نعم كنت صادقًا.. النصيرى قادر على فعلها، وصنع المستحيل».
إن ما فعله المغرب وقدمه فى مونديال الدوحة أشبه بـ«معجزة»، فريق عربى إفريقى يقع فى «مجموعة الموت»، فيفاجئ العالم بعجز لوكا مودريتش ورفاقه أمامه، الذين أقصوا فيما بعد جيلًا تاريخيًا لبرازيل نيمار.
ثم يطيح بـ«كيفين دى بروين»، أفضل صانع لعب فى العالم خلال السنوات الأخيرة، ويجعله ينفعل على زملائه بعدها، ويقصى لويس إنريكى رفقة مجموعة من المواهب، الشروط الجزائية للاعب واحد منهم وصلت لمليار دولار فى بعض الحالات، وقرابة نصف المليار لعدد آخر.
ولمّا دفع ثمن ذلك إصابات بالجملة وغيابات، قالوا: «لقد انتهى هنا»، خاصة أن الخصم قائده كريستيانو رونالدو، لكن المغرب يعود ويفعلها ويبكى «الدون».
حينما تنظر لتغييرات البرتغال ومن أتوا من على دكة البدلاء أمام المغرب ستدرك حجم الإنجاز، لك أن تتخيل أن فريقًا ضمن تغييراته رونالدو، الهداف الأفضل فى التاريخ، كانسيلو الظهير الأفضل فى العالم آخر عامين، لياو الجناح الواعد الذى يتعارك العالم عليه ويفوق سعره ١٠٠ مليون يورو، فما بالك بمن هم فى الملعب؟!
الجميل فى هذا الانتصار أنه لم يكن لسوء أداء المنافس، ولا لضعف خططى، بينما كان لبراعة وليد الركراكى ونجومه، فالبرتغال بدّل طريقة اللعب، ونوّع أساليب الهجوم، حاول عبر الأطراف، ومن العمق، استخدم أصحاب الحلول الفردية والمراوغات، لجأ للكرات العرضية وحوّل مدافعيه دياز وبيبى لمهاجمين، لكن رغم كل ذلك كان «الأسود» يدافع عن وطن وعلم وألوان بروح غير مسبوقة.
بيبى مدافع البرتغال تحدث بحرقة: «فعلنا كل شىء، الشوط الثانى كنا نحن فقط الفريق الذى يلعب، ما يحزننى أننا مجموعة قوية جدًا، وكنا نستطيع الفوز بكأس العالم».
فعل المغرب هذا رغم إصابات نايف أكرد وغانم سايس ونصير مزراوى وأملاح والنصيرى، وغيرهم.
فعل المغرب ذلك رغم التعب والإرهاق، بعد ١٢٠ دقيقة سابقة أمام إسبانيا، ورغم «الترقيع الخططى» الذى جرى بفعل الإصابات خلال الجزء الأخير من المباراة، ولو كان «الأسود» بنفس الأريحية التى كان عليها البرتغال ولم تحضر الإصابات، لسجل ثانيًا وثالثًا.
لكن ما السر الذى منحه هذه القدرة على كسر كل هذه الصعاب؟
إنه الإيمان الذى زرعه وليد الركراكى، فأقنع لاعبيه بأنهم قادرون على تحويل المستحيل إلى واقع، حينما قال فى بداية المشوار: «لِمَ لا نفوز بالمونديال؟.. المستحيل سيتحول إلى واقع حينما يأتى شخص ويفعله، فكونوا أنتم هذا الشخص».
هكذا كانت لغة «الركراكى» مع لاعبيه دائمًا، فليس بمستغرب أن يلعب غانم سايس ٦٠ دقيقة أمام البرتغال بقدم واحدة مثلما صرّح، لتتمزق قدمه بعدها.
لدينا فى مصر مدرب اسمه كارلوس كيروش قال قبل انطلاقة بطولة أمم إفريقيا الأخيرة: «لن ننافس على البطولة، هذه إمكانات لاعبيكم، لا تطالبونى بشىء»، رغم أن هؤلاء اللاعبين فازوا على المغرب، ورغم أن قائدهم محمد صلاح الذى أرهق العالم، وإلى جواره محترفون لعبوا فى إنجلترا وفرنسا وألمانيا ولا زالو متألقين فى أوروبا، مثل مصطفى محمد وتريزيجيه ومرموش.
الأمر لم يكن أبدًا بسبب ضعف لاعبين، فقائمة المغرب ليست أفضل من قائمة البرتغال ولا إسبانيا.
التكتيك فى كرة القدم قلّص فجوات كبيرة، وكرواتيا فعلها أمام البرازيل، واليابان أطاح بألمانيا وهزم إسبانيا وودّع بركلات ترجيح، لكن الأمر متعلق بمدرب جدير بمكانته، يعرف كيف يقود لاعبيه ويزرع الثقة والإيمان حتى يأخذ أفضل ما بداخلهم.
نفس مجموعة اللاعبين المغاربة كانت أقل بكثير تحت قيادة وحيد خليلوزيتش، ولم تحقق أى إنجاز، لكن «الركراكى» هو من أجاد، وترجم الإمكانات لنتائج، بينما فى اتحاد الكرة دافعوا عن «كيروش»، وجلسوا فى الاستديوهات يوهموننا بأفكاره: «هذه بضاعتنا التالفة».