«الدستور» تزور «جنة سيوة» أرض النبوءة والخيال.. باركت الإسكندر الأكبر واستقبلت بن نصير
أطلق لخيالك العنان.. فإنك فى أرض الأحلام حيث السحر والجمال، وحيث تتعانق أشجار النخيل مع زرقة السماء لترسم لوحة من لوحات الوهاب.
فى واحة الغروب أو واحة سيوة، ليس أمامك سوى أن تخلع نعليك على بابها، فأنت ستدخل جنة الله على الأرض، وتظل تردد فى كل لحظة من لحظاتك هناك جملة واحدة وهى «سبحان الله».
الطريق إلى الواحة طويل، فالمسافة من القاهرة إلى هناك تصل لـ٨٠٠ كيلومتر، مارًا بمدينة مرسى مطروح التى تبعد عنها ٣٠٠ كيلومتر، ورغم مشقة السفر، خاصة أنه لا توجد رحلات بالطائرات إلى هناك، إلا أنه وبمجرد اقترابك من منحدر الهبوط إلى قلب الواحة، تشعر بأن الطاقة السلبية التى بداخلك تنسحب تدريجيًا حتى تتلاشى مع أول شخص يقابلك من أهالى سيوة.
يتعامل أهل الواحة مع الضيوف على أنهم معرفة قديمة، فبمجرد أن تطرح سؤالًا للاستفسار عن أى شىء، يبادرونك بشرح تفصيلى عن كل شىء، ويسدون لك النصائح لتمضى أيامًا مفعمة بالنشاط والحركة.
سيوة ليست مجرد مكان للاستشفاء الصحى أو مزارع نخيل وزيتون فقط، بل تملك تاريخًا كبيرًا وعريقًا يجعلك تزداد فخرًا أنها ضمن خريطة وطنك، فهنا مر آمون ومر الإسكندر الأكبر وفتحها موسى بن نصير، ومرت قوافل التجارة ومر الحجيج من المغرب العربى، ومر جنود محمد على، كما مر الملك فؤاد الأول والملك فاروق.
واحة تنطق كل نخلة فيها بتاريخ عظيم، كما تشهد ما تبقى من آثارها على براعة قدماء المصريين على مر العصور فى فن التخطيط والبناء والزراعة، فهى واحة وهبها الله كل آيات المعجزات وخلفت لنا حكايات وأساطير تقف أمامها متأملًا كل حرف فيها.
الطريق إلى سيوة من الشمال، يمر عبر مرسى مطروح، فهو الطريق الوحيد الذى تنفذ منه للواحة، وهو الطريق الذى تم استخدامه من العصور الفرعونية واليونانية والرومانية، والواحة تمتد لحوالى ١٠٠ كيلومتر وعرضها يتراوح بين ٥ و٩ كيلومترات، وتنخفض تحت سطح البحر بين ١٠ و٢٢ مترًا فى بعض الأماكن.
تمتلك سيوة مخزونًا هائلًا من المياه الجوفية التى تتدفق من العيون الرومانية التى يتراوح عمقها بين ٤ و٨ أمتار، ويتميز بعضها بزيادة نسبة الأملاح والكبريت التى تعالج العديد من الأمراض، ويبلغ عدد العيون الطبيعية حوالى ٢٢٠ عينًا من أشهرها عين كليوباترا وفطناس وغيرهما، وحاليًا أصبحت تلك العيون مزارات سياحية تنتشر حولها المحلات والبازارات لبيع منتجات الواحة وتقديم المشروبات المحلية.
اسم سيوة مر بمراحل مختلفة، حيث كانت تسمى فى العصور القديمة «ثا»، وفى القرن الخامس قبل الميلاد والعصر الرومانى كان اسمها واحة آمون، ويصل تعدادها الآن حوالى ٤٠ ألف نسمة.
الشالى حصن الواحة من هجمات قبائل الصحراء وقطّاع الطرق
بمجرد دخولك سيوة، ستقابلك أشجار النخيل على الجانبين مرحبة بك، ثم تدلف السيارة فى طريق مستقيم إلى أن تجد نفسك وسط المدينة التى تتميز بالبساطة التامة، حيث محلات بسيطة متناثرة ثم المسجد الكبير الذى افتتحه الملك فاروق، ومن بُعد تطل عليك «شالى سيوة» وتعنى «المدينة»، وهى حصن من الطوب اللبن، وتم بناؤها بين القرنين ١٢ و١٣ الميلادى، بهدف رد هجوم العرب والقبائل المتنقلة فى الصحراء، حيث سادت الفوضى فى الصحراء الغربية بعد عصر الإمبراطورية الرومانية، فكانت القبائل تغير على بعضها البعض للحصول على الغذاء من مناطق الآبار المأهولة بالسكان، ما دفع أهالى الواحة لبناء قلعة عالية لحمايتهم من الغزاة وظلت مسكونة حتى عام ١٩٢٦.
وبنيت «الشالى» من مادة «الكرشيف» وهى أحجار ملحية من البحيرات المالحة والطمى، وشالى سيوة بنيت فوق هضبة مرتفعة تعلوها قمتان، واحدة فى أقصى الغرب والثانية فى الشرق، وعليها بنى العديد من المنازل الكرشيفية.
القلعة شيدها أربعون رجلًا وأحاطوها بسور ولم يجعلوا له غير باب واحد ما زال قائمًا إلى الآن، ويعرف باسم «الباب أن شال» بمعنى «باب المدينة»، وفى الجهة الشمالية من السور يوجد الجامع القديم، الذى تبلغ مساحته ١٠٠ متر، وملحق به مكاتب لتحفيظ القرآن، وعقد جلسات الذكر، وتتم إقامة الصلاة به فى فصل الصيف، نظرًا لارتفاع حرارة الجو، وما زالت تقام فيه الصلوات إلى الآن، بعد أن رممته وزارة الآثار عام ٢٠١٠، وبعد مرور قرن، فتحوا بابًا ثانيًا أطلقوا عليه «الباب أثراب»، أى الباب الجديد، كما تضم «الشالى» جامعًا آخر فى الجهة الغربية الجنوبية اسمه طندى، وكلا الجامعين يحتويان على مئذنة تستخدم- بجانب رفع الأذان- لإعلام الأهالى بالمواقيت الخاصة بالرى.
ورممت وزارة الآثار جزءًا من «الشالى»، فيما توجد أطلال لمنازل تهدمت بفعل نزوح السكان لبناء منازل أسفل الهضبة بعدما حل الأمن والسلام وتوقفت هجمات قبائل البدو العابرة للصحراء للغزو والنهب، وما تبع ذلك من نزوح، بقصد الحصول على مواد البناء لاستخدامها فى إعادة بناء المنازل القديمة.
وهناك ٦ آبار للمياه داخل «الشالى» ومعصرة لزيت الزيتون، ويقال إن الأربعين رجلًا الذين أسسوا «شالى سيوة»، كما جاء فى مخطط سيوة الذى يرجع تاريخه بين ١٨٨٠ و١٩٢٠، كانوا هم عماد هذه الواحة، وعندما تكاثروا قسموا أنفسهم إلى قبائل عدة، كونت الـ١١ قبيلة التى سميت بهذه الأسماء بعد ذلك، وربما، حسبما يشير الدكتور عبدالعزيز عبدالرحمن الدميرى، مدير عام آثار مطروح فى كتابه «سيوة والساحل الماضى والحاضر»، أنه ربما كانت هناك أسر أو عائلات، حطت واستقرت فى الواحة المترامية الأطراف، وقدمت بغرض التجارة أو الرعى، وفى البداية عاملهم أهالى الواحة كنزلاء أو ضيوف، ثم استوطنوا وأصبحت لهم أملاك، واستدل الدكتور الدميرى على ذلك، أن بعض هذه القبائل لها أسماء عربية مشابهة للقبائل فى مناطق بالصحراء الكبرى، أو أن هؤلاء الأربعين رجلًا انقسموا إلى عدة عائلات وقبائل، وبعضهم استقبل فى قبيلته وافدين ليزيد العدد والقوة.
وتتشابه «شالى أغورمى»، المقامة بجوار معبد الوحى أو النبوءة، فى تكوينها مع «شالى سيوة»، وبنفس التفاصيل وإن كان يتنظر أن تمتد إليها يد الترميم وإعادتها لما كانت عليه، وأسفل «شالى أغورمى» توجد مساكن أهالى تلك القبيلة بعد أن هجروا «الشالى» عقب استقرار الأحوال وإرسال محمد على باشا حملة بقيادة حسن بك الشماشرجى، لإنهاء حالة الاقتتال بين قبائل اللفايا والتخصيب، وفرض على أهالى الواحة الجزية، وترك هناك الهجانة لحماية الواحة ولم تعد هناك حاجة للعيش فى «الشالى».
معبد آمون هنا أصبح الإسكندر الأكبر ملكًا على مصر.. وتوقع «حكم العالم»
لا يمكن أن تزور الواحة دون أن تسأل عن معبد النبوءة أو معبد الوحى، كما يطلق عليه. يوجد فى قرية أغورمى حيث كان مخصصًا لعبادة الإله آمون الذى انتشرت عبادته فى أرجاء أرض الفراعنة، وهناك جرى تتويج الإسكندر الأكبر ابنًا للإله آمون.
من أعلى قمة المعبد الذى جرى تشييده فوق هضبة أغورمى التى ترتفع ٣٠ مترًا فوق سطح الأرض، يمكنك أن تشاهد مشهدًا إبداعيًا للواحة كاملة بنخيلها وأشجار زيتونها، كذلك منازلها القديمة والحديثة، كما توجد فى أسفلها مساكن قبيلة أغورمى التى يسكنون فيها حتى وقتنا الحاضر. يعود تاريخ إنشاء معبد النبوءات إلى بداية العصر المتأخر الأسرة السادسة والعشرين، وتشير النقوش الموجودة فى منطقة قدس الأقداس إلى أنه أنشئ فى عهد الملك أحمس الثانى، وهو من أهم ملوك الأسرة السادسة والعشرين. يشهد المعبد ظاهرة فلكية تسمى الاعتدال الربيعى، حيث تتعامد الشمس على المعبد مرتين كل عام أثناء الاعتدال الربيعى والاعتدال الخريفى، ويسعى خبراء الآثار إلى استغلال تلك الظاهرة للترويج السياحى للمعبد؛ ليكون مثل معبد أبوسمبل فى أسوان الذى اشتهر بتعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى. يتكون المعبد من ثلاثة أجزاء، هى المعبد الرئيسى، وقصر الحاكم، وجناح الحراس، وبه ملحقات كالبئر المقدسة المخصصة للاغتسال والتطهر. وترجع أهمية المعبد إلى كونه مهبط وحى الإله آمون، حسب المعتقدات المصرية القديمة، لهذا أصبح مقصدًا مهمًا للناس فى ذلك العصر لاستشراف المستقبل عن طريق نبوءات الكهان، وكانت نبوءات هذا الإله تلعب دورًا بارزًا فى أمور الحكم، كما نال كبش آمون الذى يتجسد الإله فيه شهرة واسعة فى العالم القديم نظرًا لقدرته على التنبؤ بما سوف يحدث.
من أشهر الأحداث المرتبطة بالمعبد تتويج الإسكندر الأكبر ابنًا للإله آمون قبل أن ينصب حاكمًا على مصر، كوسيلة اتخذها الإسكندر للتقرب إلى المصريين لما عرف عنهم من ارتباطهم بمعبوداتهم فى ذلك الوقت، وكان من أشهرها الإله آمون، حيث زار الإسكندر الأكبر المعبد عام ٣٣١ ق.م بعد وصوله مصر.
وطلب الإسكندر من الكهنة أن يتنبأوا بمصير حملاته العسكرية المقبلة وهل سيحكم العالم أم لا؟ لتكون الإجابة نعم، ولكن ليس لفترة طويلة، كما أخبره الكهنة بأنه ابن لزيوس آمون فتم تنصيبه حاكمًا على مصر.
جبل الدكرور قبلة التسامح والتهادى بالطعام وذكر الله والصلاة على النبى
منذ أن وطأت قدماى الواحة الخضراء وأنا أتلفت حولى بحثًا عن جبل الدكرور، المعروف بأعياد التسامح والتصافى بين أهالى الواحة، ولحسن الحظ فقد كان الجبل قريبًا بما فيه الكفاية من مقر إقامتى، فكنت أمر عليه ذهابًا وإيابًا فى اليوم أكثر من مرة.
تحت سفح جبل الدكرور توجد عدة مبانٍ من دور واحد لها سقف مغطى بجذوع النخيل وشبابيك مفتوحة للتهوية ومقسمة لعدة حجرات، لكنها متناثرة أسفل الجبل، وهى الغرف التى يقيم فيها أهالى الواحة طوال أيام عيد التسامح الذى يقام فى نوفمبر من كل عام لمدة ثلاثة أيام، حيث يتجمع أهل الواحة أمام هذا الجبل وتذبح الجمال أو الأبقار أو الأغنام.
ويعد الناس الطعام ويدعون للجلوس فى حلقات على الرمل أمام الجهة الأخرى للجبل فى انتظار أن ينادى المنادى ويأذن لهم بالطعام، بغرض إعلان المساواة بين أبناء الواحة.
فى الليل تعقد صلاة العشاء بعد حلقات الذكر، كما تعقد جلسات مصالحة لكل المتخاصمين، سواء كانت مشكلات أسرية أو قبلية، وفى أعلى هضبة الجبل توجد غرفة تطل على الساحة يجلس فيها شيوخ الطريقة المدنية، أحد فروع الطريقة الشاذلية التى تنظم هذا العيد، ليراقبوا كل ما يحدث أسفل الجبل، وعقب انتهاء الأيام الثلاثة، وفى اليوم الرابع يغادر الناس الجبل ومعهم أمتعتهم ويرفع سادة الطرق علمًا أخضر عليه اسم الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الأربعة ويسيرون من الجبل إلى ميدان سيدى سليمان، حيث الجامع الكبير وسط البلدة القديمة ثم يعقدون جلسة ذكر قصيرة وهم وقوف، ثم ينصرف الجميع إلى منازلهم وأشغالهم على موعد بالعودة فى العام المقبل.
رمال سحرية علاج أمراض العظام والألم بالدفن والحرارة والأعشاب الطبية
جبل الدكرور ليس مكانًا فقط لجلسات الذكر، بل يشتهر أيضًا بجلسات الدفن فى الرمال لكل من يعانى من أمراض العظام والعمود الفقرى، حيث يلجأ إليه الكثيرون من أجل الاستفادة من الإشعاعات التى تخرج من باطن الرمال فى الفترة من منتصف شهر يونيو إلى منتصف شهر سبتمبر، حيث تبدأ عمليات الدفن من السادسة صباحًا بعمل حفرة كبيرة تسع جسد الإنسان، وفى حدود الساعة الواحدة ظهرًا ومع تعامد الشمس تشتد حرارتها، وحينها يجلس الأشخاص من طالبى العلاج داخل الحفر بعد أن تخففوا من ملابسهم؛ لتتم تغطية غالبية أجسادهم بالرمل حتى الرقبة مع وضع شمسية صغيرة على رءوسهم لتفادى إصابتهم بضربة الشمس.
يظل الشخص فى الرمل من ربع إلى ثلث الساعة، ثم يدخل بعدها فى خيمة بنفس درجة حرارة الرمل ويرتدى ملابسه، ويُقدم له مشروبان هما الحلبة لدر العرق والينسون للتهدئة، ثم يرتدى ملابسه ومعطفًا ثقيلًا كى يعمل عملية تسمى بـ«كمر للجسم»، ثم يخرج ويتجه لمكان سكنه بعد أن يشرب عصير الليمون حتى لا يصاب بالصداع وارتفاع درجة الحرارة.
وبعد أن يتجه الشخص إلى مكان سكنه ينام مرتديًا المعطف ما يقرب من ساعة ونصف الساعة كاملة، ليخرج من جسده العرق المحمل بالسموم.
وتتراوح سعر الرحلة العلاجية لمدة أربع ليالٍ بين ألفين و٣ آلاف جنيه للفرد. الرحلة فى سيوة لم تنته بعد، فلا يزال هناك الكثير والكثير الذى يمكن الحديث عنه فى الحلقة المقبلة.