المزارعون بين شقيّ الرحىَ.. «الدستور» داخل عالم السوق السوداء للقمح (تحقيق)
تحركات داخلية وخارجية تقوم بها الحكومة خلال الفترة الأخيرة من أجل تعزيز الأمن الغذائي، والذي يعد القمح أحد أهم عوامله، لاسيما أن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا أثرت على حركة الاستيراد في وقت يبلغ متوسط استيراد مصر سنويًا من القمح 6.1 مليون طن.
تصارع الحكومة على أكثر من جبهة من أجل تأمين القمح والسيطرة على سوق الحاصلات الزراعية، إذ تحارب تجار السوق السوداء، وتحاول تأمين قمحها وسط الحرب الدائرة لاسيما أن القمح الروسي يمثل 80% من واردات مصر.
بين تلك الجبهات يقف الفلاح في مصر حاملًا معاناته وخسائره، لكون الحكومة وفقًا لعدد منهم لا تقوم بالتسهيلات الكافية من أجل التوريد للشون الحكومي، في وقت يرفع فيه تجار الأسواق الموازية الأسعار عن السعر الرسمي.
"الدستور" اخترقت السوق السوداء للقمح لمعرفة الأسباب التي تدفع الفلاح اللجوء إلى تجار الأسواق الموازية، والمضاربة في الأسعار بينهم وبين السعر الرسمي، من خلال عقد إتفاقيات مع عدد منهم لكشف تلك التفاصيل وكذلك الوقوف على خسائر الفلاحين من السوق الموزاية.
اتفاقيات غير قانونية لشراء وتوريد أقماح خارج الشون الحكومية
ما يدلل على أن هناك سوق سوداء للقمح سواء في عمليات الشراء أو التوريد استطاعت محررة "الدستور" عقد اتفاقيات مسجلة بين هذا وذاك في محافظات مختلفة مع التجار، في الأول عقدنا اتفاقية مع أحد تجار محصول القمح بمحافظة الفيوم، لشراء 150 إردبًا من القمح مبررة ذلك في نيتها لإفتتاح مخبز خاص لها الفترة المقبلة، فقال: إن "أسعار محصول القمح بتلك الآونة قد ارتفع بشكل غير مسبوق ليتضاعف سعره عن السنوات السابقة نظرًا للظروف الحالية والمعايير المفروضة من قبل".
ويتابع التاجر حديثه أن سعر الإردب الواحد من محصول القمح قد وصل إلى 1100 جنيه إذ أنه يباع بعيدًا عن الشون الحكومية، مؤكدًا على إنه سيواصل ارتفاعه الفترة المقبلة نظرًا للإقبال الكبير لشراء كميات من هذا المحصول، ورغبة المزراع والتاجر المصري من الاستفادة معلقًا: "السعر كدة مش غالي والفترة الجاية السعر هيضرب وهيزيد جدًا لأن بردو المزارع والتاجر عايز يستفيد".
وذكر أنه سيتمكن من توفير الكمية المطلوبة حيال توفير المبلغ الكافي لشراء تلك الكمية، وسيقوم بإحضارها من أحد التجار الكبار الذي يتولي تجميع محصول الذهب الأصفر من الفلاحين الذين لا يوردون المحصول إلى الشون الحكومية.
وسألت المحررة بدورها تاجر القمح حول أبرز الإجراءات الأزمة لإتمام عملية نقل المحصول إلى داخل حدودو نطاقها الجغرافي، فأجاب إنها ستتحمل أجر العمالة والعربات التي سيتم من خلالها نقل الشحنة، وأكد عليها إنه سيتحرى الأمر لإمكانية نجاح نقل الشحنة إلى محافظة القاهرة، منوهًا إلى إن عمولته ستصل إلى 1500 جنيه.
من الفيوم إلى المنيا يصل سعر الإردب الواحد من محصول القمح المباع والمورد خارج الشون الحكومية إلى 1500 جنيهًا، إذ تستمر عملية الاحتكار والمتاجرة بمحصول القمح بعيدًا عن أعين الحكومة للاستفادة قدر الإمكان من القمح دون مراعاةً للشروط المعايير التي طرحتها وزارتي الزراعة والتموين لتوريد محصول القمح للجهات التسويقية الحكومية.
وتواصلت مع تاجر آخر من محافظة المنيا، لشراء كميات من محصول الذهب الأصفر، ليبلغها إن سعر الإردب الواحد منه يصل إلى 1500 جنبها والذي تفاقم بالفعل بشكل غير مسبوق، لتنشط إذن السوق السوداء للمتاجرة بمحصول القمح.
وقال: "إن محصول القمح يشهد في الفترة الحالية ارتفاع كبير نتيجةً لاحتكار عدد من التجار والمزارعين لمحصول القمح، ليتمكنوا من تحقيق مكاسب مالية كبيرة ولكن خارج إطار المعايير الحكومية في توريد القمح لهذا العام".
ويستكمل: "إنه إن كانت هناك نية صادقة في شراء كميات من محصول القمح، يجب توفير المبلغ المطلوب لإمكانيته في توفير الكمية المتفق عليها من المزارعين وتجار المنطقة، معلقًا: "ياريت يتم توفير الفلوس المطلوبة في أسرع وقت لو عايزة تشتري ١٥٠ أردب لأن كل يوم السعر بيزيد".
الحكومة تلاحق المضاربين بالضبطيات
وتقوم الحكومة بملاحقة مضاربي القمح في السوق السوداء، ففي شهر يونيو الماضي، حررت مديريات التموين بالمحافظات 196 محضرًا في محافظات الأقصر والبحيرة والغربية، لتجار قاموا باستلام القمح من المزراعين خارج الشون الحكومية، وخلال الفترة فخلال الفترة من 19 أبريل وحتى 11 مايو ضبطت الوزارة 84 قضية.
كان من بينها ضبط مديرية التموين في البحيرة سيارة محمله بـ 10 أطنان من القمح المحلي، وفي نفس التوقيت استطاعت مديرية التموين بكفر الشيخ من ضبط 100 طن قمح محلى بحوزة تاجر حجبهم، لبيعها فى السوق السوداء.
وفي أغسطس الماضي، ضبطت حملة مشكلة من مباحث التموين والرقابة التموينية بالبحيرة، سيارة نقل محملة بـ 30 طنًا من القمح المحلي بمركز دمنهور قبل بيعها بالسوق السوداء، وفي الشرقية حرر محضر رقم ٨٦٨٤ ضد أحد أصحاب الحيازات الزراعية للتلاعب بتوريد القمح وضبط طن و800 كيلو قمح والإتجار به في السوق السوداء.
مزارع قمح: "قلة الدعم تدفعنا إلى السوق الموازية للقمح"
الحاج سالم، مزارع قمح في الفيوم، يوضح أن القمح هو أحد السلع الاستراتيجية الهامة التي تتبنها الدولة كسلعة وتسعيرة بشكل خاص، موضحًا أن التوريد يتم من خلال المزارعين إلى "الشون" كل عام في موسم القمح لكن التجار يخلقون سوق موازية للدولة.
ويرى سالم أن هناك عدة مشاكل تدفع المزراعين إلى تلك السوق الموازية بدلًا من التوريد للدولة، مضيفًا: "لازم يكون فيه دعم للأسمدة لمحصول القمح تحديدًا عشان الفلاح ميروحش للسوق الموازية بالأسعار التانية، غير شكارة الكيماوي اللي كانت بـ80 و90 جنيه وأصبحت حاليًا 240 وممكن توصل في الجمعية الزراعية إلى 260 جنيه".
ما عزز السوق السوداء للقمح في مصر هو زيادو تكاليف زراعته على الفلاحين، إلى جانب عوامل المناخر والمتأثرات الخارجية وظروف المياه، بحسب سالم، الذي يؤكد أن فدان القمح في الوقت الحالي بعدما كان يخرج منه 22 أردب قمح أصبح ينتج 13 أردب فقط وهي خسارة يتحملها المزراع.
ومن المشاكل التي جعلت السوق السوداء تزخر بمزارعين القمح هو عدم وجود دخل ثابت لهم بسبب ارتباطهم بموسم القمح فقط، ما يدفعهم إلى السوق السوداء وتخزين قمح وعدم توريده للدولة من أجل بيه فيها، كي يستطيع بيع القمح طوال العام.
يقول: "لازم نحقق مكسب طول السنة مش في الموسم بس، الدولة بتأخد من الفلاح خلال الموسم، لكن قمح التخزين بيأخده تجار السوق السوداء"، مشيرًا إلى أن وجود دعم من الدولة وحل لتلك المشكلات سينهي أزمة السوق السوداء للقمح.
عملية التوريد وعقوبة الامتناع
ينظم القرار رقم 51 لعام 2022 تداول القمح في موسم الحصاد الحالي، والذي يحدد أن كل من يملك محصول قمح تسليم الجهات 12 أردب لكل فدان على ألا تقل درجة نظافة القمح الذي يسلم الجهات التسويق عن 22.5 قیراط.
القرار أيضًا يحظر على الفلاحين بيع المتبقي لأي جهة غير الشون الحكومية تجديدًا السوق الموازي سواء كان شخص أو تاجر، إلا بموافقة من وزارة التموين محدد بها الكمية والغرض ومكان التخزين والسعر المتفق عليه.
وتضمن القرار عقوبة لتهريب القمح في السوق الموازية، وهي الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن 5 سنوات وغرامة لاتقل عن 300 جنيه ولا تجاوز 1000 ألف، بحسب المادة 56 من القانون، بحكم قانون العقوبات في المادة 56 من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين.
محمود إيهاب: مهرب القمح تصل عقوبته بالحبس 5 سنوات
يقول محمود إيهاب، الخبير القانوني أنه فيما يخص عملية تهريب محصول الذهب الأصفر والامتناع عن تنفيذ القرارات الحكومية بشأن توريدها، فقد نصت المادة رقم 95 لسنة 1945 على إنها مخالفة لأحكام هذا القرار والذي يعاقب عليها القائم بهذا العمل المخالف بما تنص عليه المادة 56 من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين.
ويوضح أن مخالفة المعايير الحكومية المشروطة في عمليات توريد محصول القمح من حيث تهريب الأقماح الامتناع عن توريد الكميات المحددة، أو حتى القيام بنقل المحصول خارج النطاق الجغرافي المحدد دون تصريح تكن عقوبتها الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن 5 سنوات.
ويشدد أن ذلك إلى جانب دفع غرامة مالية تبلغ 300 جنيهًا كحد أدنى ولا تتجاوز 1000 ألف، وذلك وفقًا للمادة رقم 56 من قانون العقوبات وفي حالة العودة لارتكاب الجريمة، فتضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأقصى.
عبدالحفيظ: "اختلاف السعر الرسمي عن سعر السوق السوداء يزيد المضاربة في القمح"
بينما يرى عبدالحفيظ، أحد موردي القمح في المنيا، أن المزراعين والموردين مجبورين للجوء إلى السوق السوداء وتجارها، مبينًا أن متاعب استلام القمح من المزراعين تدفعهم إلى التجار الذين يتحكمون في السعر ويضعون أسعار للتوريد أقل من سعر الدولة.
وبين أن التوريد للأردب عند الحكومة وصل إلى 1900 بينما التاجر يأخذه بسعر 1800 جنيه لأنه "يموت السعر"، وهو ما يؤدي وفقًا لـ"عبدالحفيظ" إلى المضاربة في السوق الرسمية والسوق الموازية التي تعرف بالسوق السوداء.
يقول: "الموضوع بيمثل خسارة على المزارع خصوصًا أن دا عمله الأساسي طوال السنة، ولو ورد للحكومة بيتكفل سعر نقل القمح للشون الحكومية وانتظار أيام تسديد قيمته، عشان كدة بنلجأ للتجار في السوق السوداء".
ويوضح: "أنا بورد أحيانًا للتجار بدل الشون الحكومية، رغم إني نفسي التزم بالتوريد للحكومة لكن مفيش تسهيل للإجراءات، محتاجين توسع في زراعة القمح بدل من استيراده من الخارج ودفع تكاليف الاستيراد لأن مصر تمتلك مساحات واسعة يمكن زراعتها وزيادة الإنتاج".
عبدالحفيظ يرى أن دور الحكومة في تلك العملية هو عدم إعطاء فرصة للتجار للمضاربة بأسعار القمح في السوق السوداء: "مفروض ميكنش فيه توريد غير عن طريق الحكومة فقط، عشان محدش يطلع بره ويدي بسعر مختلف وأعلى من السعر الحكومي، لازم الجمعيات توفر تسهيلات عشا ن المزراعين يوردوا للشون والمطاحن".
ويختتم: "لجوء المزراعين للسوق الموازية بسبب صعوبة التوريد للشون الحكومية، رغم أن السوق الموازية بترفع السعر ودا بيأثر على السلع فيما بعد زي المكرونة والعيش السياحي، ولما السعر الرسمي يختلف عن السعر في السوق السوداء يحدث مضاربة".
10 ملايين طن إنتاج مصر المحلي للقمح
بحسب آخر إحصاء صدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن واردت مصر من القمح تراجعت منذ العام الحالي، إذ سجلت 175 مليون و931 ألف دولار في شهر فبراير الماضي، بينما كانت 341 مليون و102 ألف دولار في شهر فبراير عام 2021، بتراجع 165 مليون و171 ألف دولار.
وتعتبر روسيا هي ضمن أعلى 10 دول تستورد مصر منها القمح خلال العام الماضي والحالي، حيث سجلت قيمة واردات مصر منها 1,2 مليار دولار وبكمية بلغت 4,2 مليون طن، بنسبة 69,4 % من إجمالي كمية واردات مصر من القمح.
والعام الحالي هو الأول الذي يصل فيه إنتاج القمح المحلي إلى 10 ملايين طن، وبحسب مركز المعلومات واتخاذ القرارات فإن إنتاج مصر المحلي من القمح ارتفع بنسبة 8.9% خلال العام الحاليوزادت مساحة القمح المنزرعة لتصل إلى 3 ملايين و650 ألف فدان.
محمد القرش: "قمنا بتسليم وزارة التموين هذا العام 4.2 مليون طن من محصول القمح"
وقال محمد القرش، المتحدث الرسمي لوزارة الزراعة، في تصريحات خاصة لـ"الدستور" حرصت الدولة المصرية المتمثلة في وزارتي الزراعة والتموين على أن يكون انتاجنا من محصول القمح هذا العام كبيرًا، وبالفعل تزايدت معدلات إنتاج الأقماح في كافة ربوع مصر بشكل غير مسبوق، حيث بلغت المساحات المنزرعة بمحصول القمح هذا العام إلى 3 ملايين و965 ألف فدان.
وأردف القرش: "قد استهدفت وزارة الزراعة توفير كافة الإمكانيات اللازمة لتسهيل زراعة القمح والمشروعات الخدمية للفلاح من تطوير طرق وأساليب الري، و تصليح الأراضي بالليزر والحرث بالميكنة الزراعية، إلى جانب توفير التقاوي بأصنافها المختلفة والأسمدة والمبيدات، مشيرًا إلى إن وزارة الزراعة قامت بتسليم وزارة التموين هذا العام4.2 مليون طن من محصول القمح، منوهًا إن هذا جزء من إنتاج الأقماح هذا العام.
ويستكمل: "إن الدولة قد وضعت سعر تحفيزي استرشادي بقيمة 1000 جنيهًا للقمح هذا العام، لتشجيع المزارع واستعداده لزراعة القمح بالفترة المقبلة، ونتمكن من إحداث طفرة بانتاجنا من محصول القمح هذا العام القادم، مشيرًا إلى إن الصوامع التى تم انشائها إلى جانب الدعم والتحفيز المقدمة من الدولة لعبت دور كبير في دعم وتمكين الفلاح.