المؤتمر الاقتصادى.. الوعى بالماضى أفضل طريقة لدخول المستقبل
فى عام ١٩٨٧ ظهر على سطح الأحداث فى مصر اسم «التوقف والتبين» لا أريد أن أتذكر شيئًا حول ملابسات ظهور التعبير بقدر ما أرغب فى أن أستعيره.. لأصف به وقائع أولى جلسات المؤتمر الاقتصادى التى انعقدت بالأمس بحضور الرئيس السيسى، لقد كان أحد أهداف المؤتمر من وجهة نظرى أن نتوقف لنرى أين كنا وأين أصبحنا؟ وأى المراحل قطعنا؟ وإلى أى المراحل نستهدف أن نصل؟، بمعنى أننا استعرضنا الماضى بمشاكله وعثراته وملابساته لنعرف كيف أثر على الحاضر وفرض عليه تحديات مضاعفة عن تلك التى كان علينا أن نخوضها لو كانت عثرات الماضى أقل، وأظن أن استعراض الماضى وأثره على الحاضر لا يكتمل إلا إذا خططنا للمستقبل ودرسنا كيف نواصل تغيير واقعنا، وكيف ننتقل من مرحلة قيادة الدولة للاقتصاد لمرحلة إتاحة الفرصة لقوى المجتمع الحية للانطلاق والمشاركة وتحمل العبء مع الدولة، إن المؤتمرات طالما كانت وسيلة الرئيس الإعلامية الأولى فى التواصل مع الناس، وشرح الأفكار، والرد على الشائعات، فهو لا يؤمن بالوسطاء بينه وبين الناس، ويفضل أن يشرح أفكاره بنفسه بلغة بسيطة، وأظن أنه يراهن فى ظهوره المباشر على شحنة الصدق فى كلماته ويدرك أنها تصل إلى غاياتها مباشرة، وأظن أن أحد دواعى العرض المميز لأوضاعنا الاقتصادية منذ خمسين عامًا ثم حديث الرئيس مع الناس بعدها، هو الرد على موجة من الدعايات السوداء أرادت أن تخلط بين الأزمة المرتبطة بالحرب العالمية الثالثة، وبين طبيعة مشروعات الدولة المصرية التنموية وكأنها تحمل الدولة الذنب لأنها استثمرت سبعة تريليونات جنيه فى بناء المدن الجديدة والطرق والقطارات وإعادة بناء الريف وغيرها من مشروعات البنية التحتية التى لا انطلاقة اقتصادية بغيرها، ولا حل للمشكلة المصرية بدونها، فلا استثمارات ستأتى بدون موانئ وطرق وبنية صناعية واستثمارية جيدة، والحقيقة أن هذه الدعايات السوداء لم تكتف بالتشكيك فى جدوى كل هذا الكم من العمل المخلص والدءوب من وجهة نظرى، ولكنها أخذت تشكك فى كفاءتها مستغلة طبيعة «السوشيال ميديا» التى تعتمد على «اللقطة» دون شرح أو تفاصيل، وهكذا يتم تداول صورة بزاوية معينة لأحد الكبارى والادعاء بأنه غريب الشكل، أو لدوران أعلى طريق سريع والادعاء بأنه لا يصلح، أو يربك من يستخدمه، ثم تمر الأيام، فتكتشف أن الكوبرى ليس غريبًا فى أى شىء وأنه يعمل بكفاءة تامة، وأن الدوران لم يتسبب فى أى حادث، وأن الطريق أصبح أكثر أمنًا وكفاءة بعد استخدامه.. وهكذا دواليك، وهى كلها شائعات تطلقها الجماعة الإرهابية وبعض أعوانها من الفاسدين، ويساعد على انتشارها إحباط بعض المواطنين من غلاء الأسعار وهو إحباط مستمر عبر عقود ضاعفت منه موجة التضخم العالمى وتداعيات أزمة الدولار.. إننى أقرأ الرئيس السيسى كما قدم لنا نفسه عبر عدة خطابات فأجد قائدًا وطنيًا تشوبه نزعة وطنية رومانسية، تجعل علاقته بوطنه أقرب إلى العاطفة والرسالة منه إلى الوظيفة أو حتى المهمة السياسية، ولعل هذا ما يجعله يتأثر بموجات الدعايات السوداء فيما تم إنجازه، رغم أنه يعرف أكثر من غيره بكثير مصادر هذه الدعايات والمحرضين عليها والممولين لها، وهو من جيل انضم للقوات المسلحة بدافع الفداء والرغبة فى رد عار الهزيمة، وما زلت أذكر حديثى مع أحد طيارى مصر للطيران الكبار والأفاضل والذى أخبرنى بأنه كان طيارًا حربيًا انضم للكلية الجوية لهدف واحد هو أن يحارب «اليهود» على حد تعبيره، فلما وضعت الحرب أوزارها آثر أن ينتقل للعمل كطيار مدنى فى شركة الطيران الوطنية، هذا الرجل الفاضل والجار العزيز فى نفس عمر الرئيس تقريبًا ومن جيله فى القوات المسلحة، والذين أكملوا فى شرف الخدمة العسكرية من هذا الجيل هم الذين تصدوا لحماية ثورة الشعب فى ٣٠ يونيو، وعلى رأسهم الرئيس السيسى الذى لعب استعداده الشخصى ودراسته والأماكن التى خدم فيها الدور الأكبر فى توليه مسئولية القيادة فى لحظة حاسمة من عمر مصر.. هذه الرومانسية الوطنية لا تمنع الطابع الاحترافى الواضح فى عمل الرئيس السيسى، سواء من حيث إعداده لنفسه أو عمله على نفسه فى مراحله المبكرة، أو دراسته التفصيلية تاريخ الدولة المصرية الحديثة وأسباب إخفاقها فى تحقيق التنمية، أو دراسته الماجستير التى دارت حول الإسلام السياسى الذى أدرك مبكرًا دوره فى هز أداء الدولة المصرية وتحديها واستنزافها فى معارك طويلة متواصلة، وأظن أن طبيعته الحاسمة وإيمانه بأنه صاحب رسالة لا طالب منفعة هما اللذان دفعاه لتبنى سيناريو الحل الجذرى للمشاكل، وعدم اللجوء لسياسة المسكنات التى لجأ إليها من سبقوه كنوع من رشوة الناس وتخديرهم مع إبقاء الوضع على ما هو عليه، والتخاذل عن إيجاد حل جذرى لمشاكل مثل العشوائيات والسكن فى المقابر وازدحام الطرق القاتل، وحرمان ٦٠٪ من المصريين من خدمات الصرف الصحى، وما قاد إليه ذلك بعد انقطاع مخطط النمو الاقتصادى الهش فى ٢٠١١ من استنزاف للاحتياطى وأزمات الخبز والكهرباء والبوتاجاز، والحقيقة أن تجربة النمو الاقتصادى من ٢٠٠٤ حتى ٢٠١١ كانت تحمل فى داخلها عوامل فنائها بسبب افتقادها للشرعية السياسية والاجتماعية وقد أدت أخطاؤها إلى ما حدث فى ٢٠١١ ثم ٢٠١٣، والمعنى أن المسئولية فيما حدث تقع على من حكموا قبل ٢٠١١ بقدر ما تقع على من حاولوا استغلال الموقف وسرقة البلد كله مستعينين بتشجيع الديمقراطيين والعدالة والتنمية والتنظيم الدولى ومستغلين رغبة الناس فى التغيير بفعل الملل واعتقادهم البرىء بأن القادم أفضل، اختار الرئيس سيناريو المواجهة لأنه أقرب إلى طبيعته، وإلى رغبته فى تقديم حلول دائمة وجذرية للمشكلة المصرية، وكان من سمات المرحلة أنها مرحلة حرب وبناء معًا، وأنها كانت تدار باحتياطات الحرب، وأن الخريطة الاقتصادية والسياسية تغيرت، وأن أموالًا خاصة كانت تعتقد أن انسحابها من السوق قد يمثل أداة ضغط من أجل مزيد من المكاسب، واختلط هذا بشكاوى موضوعية من توسع شركات الدولة فى الاقتصاد، وكانت وجهة النظر الأخرى أن رأسمالية الدولة وسيلة ناجحة ومجربة للتنمية منذ عهد محمد على، وأنها وسيلة لمراكمة أرباح تعين الدولة فى سد الاحتياجات، والحقيقة أننا فى حاجة ملحة للتوازن بين هذا وذاك ولإدماج جمعيات واتحادات المستثمرين فى عملية صناعة القرار الاقتصادى، ولدعم طبقة جديدة من الرأسمالية الوطنية أو الرأسمالية المستنيرة كما سماها فتحى رضوان فى وصفه طلعت حرب، وأظن أن الدولة بعد هذا المؤتمر الفارق فى حاجة لاجتماعات مغلقة أكثر مع أصحاب رءوس الأموال، ولإغراء أكثر لهم للتحول نحو النشاط الصناعى والزراعى.. وأظن أن الأيام القادمة فى المؤتمر ستنير الكثير حول هذا الطريق.