مؤتمر الإفتاء وضرورة التواصل مع العالم
الناظر إلى المجتمعات البشرية اليوم يجد أنها قد تميزت في هذه الفترة من تاريخ الإنسان بصفة بارزة، ألا وهي زوال الحواجز الزمنية والمكانية بين الدول والشعوب والحضارات المختلفة، مما نتج عنه حالة فريدة من التواصل الفردي والمجتمعي للجنس البشري لم يعرفها الإنسان في تاريخه من قبل، وذلك على كافة المستويات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، هذا التواصل يتطور وينمو يومًا بعد يوم دون توقف، بحيث أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان على كوكب الأرض، مما يحتم علينا استغلال هذا التواصل والتقارب لتحقيق منظومة متكاملة من التنمية البشرية الحضارية الشاملة التي تعتني بالإنسان وتعمل على تحقيق الحياة الكريمة له.
وانطلاقا من هذه المفاهيم والحقائق، ومن خلال توجيهات السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، تقوم الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم ودار الإفتاء المصرية، وبكل ما تمثله مصر من بعد إسلامي وثقل حضاري وعمق تاريخي، بالعمل على ترسيخ قيم التواصل والتقارب والتعاون والتكامل بين أفراد الجنس البشري في كافة أرجاء المعمورة، وذلك من خلال عقد مؤتمرها العلمي السنوي الهام، والذي يعقد هذا العام تحت عنوان «الفتوى وأهداف التنمية المستدامة»، بمشاركة ما يزيد عن وفود تسعين دولة من دول العالم، وذلك استلهامًا من معاني آيات القرآن الكريم التي تحدثنا عن تكريم الله، سبحانه وتعالى، للإنسان، وإرشاده إلى أفضل السبل لتحقيق حياة كريمة على هذه الأرض؛ حيث يقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» [الحجرات:13]، وكذلك ما ترشد إليه السنة النبوية المطهرة من الحض على عمارة الأرض وعدم الإفساد فيها.
ويركز المؤتمر العالمي في عامه هذا على إبراز وتقرير وتفعيل العديد من المبادئ القرآنية العامة الداعية إلى تحقيق التنمية البشرية وعمارة الأرض من خلال التواصل والتعاون والتقارب والتكامل، ونشر قيم العدل والسلام، وغرس هذه المبادئ على المستوى الفردي والمجتمعي والدولي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فقد أرشدنا القرآن الكريم إلى أهمية عمارة الأرض حيث قال: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» [هود: 61]، وقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامةُ وفي يده فَسِيلة، فليغرسْها»، وقد أكدت الشريعة المحافظة على ما يسمى بمقاصد الشريعة الإسلامية والمتمثلة في حفظ: «الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل»، والتي هي المحصلة النهائية لعملية التنمية المستدامة. وقد عملت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في مؤتمرها هذا العام على معالجة قضية التنمية الشاملة من عدة جوانب، وبيان أهمية التواصل والتعاون والتقارب الفردي والمجتمعي والدولي لتحقيق هذا الهدف، وذلك من خلال الدراسات العلمية والتوصيات التي تمهد لتحقيق ذلك، وكذلك بيان أهمية دور الفتوى الشرعية المتخصصة في هذا المجال، وتفعيل عملها في هذا المجال، وبيان الكيفية التي يستطيع بها الفرد الارتقاء بمستواه البدني والعلمي والفكري والاجتماعي، بما يعود بالنفع على المجتمع كله، وبيان البعد الشرعي لهذه الأمور، مع مراعاة القيم الدينية العليا المشتركة بين البشر.
فعالم اليوم قرية صغيرة وأسرة واحدة، ومجتمع واحد غير منفصل؛ فما يحدث في الشرق يؤثر في الغرب، وما يمر به الشرق ينعكس على الغرب في عملية تفاعلية لا تتوقف أبدًا، وما حدث من الانفتاح بين الثقافات المختلفة يؤكد ضرورة الاهتمام بعملية التواصل والمشاركة على كافة المستويات الفردية والجماعية، وذلك لاستخلاص أفضل النتائج من هذا التقارب بما يصب في صالح الإنسان المعاصر.
فالتواصل والتقارب والتعاون والتكامل بين الشعوب والأفراد من أنجح الطرق لتحقيق التنمية الشاملة ونشر قيم الأمن والسلام والمحبة والتواصل بين شعوب العالم، ولذلك تعمل الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء على إحياء هذه المعاني النبيلة من خلال جميع وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ومنصات التعليم، وذلك بعدة لغات لغرس قيم التعاون والمشاركة والعمل والعطاء، ونشر الوعي بين الشعوب والدول والأفراد، لتحقيق الرخاء للفرد والمجتمع، وإرساء مبادئ العدل والسلام، والمحافظة على كرامة الإنسان وقيم الأسرة، وفتح مجالات الرعاية الصحية، وتطوير مجالات التعليم والدراسة المتنوعة، ومراعاة المشترك بين الجنس البشري، ورعاية حقوق الإنسان، والاهتمام بدور المرأة في العصر الحديث، وتعزيز قيم التعاون والحوار بين الأديان، وحسن إدارة الموارد ومواجهة مشكلات الندرة والحاجة، ومحاربة مبدأ التغول والسيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومعالجة الانحراف الفكري، ومواجهة معوقات التنمية ومظاهر الفساد، ومعالجة المشكلات الحياتية التي تواجهنا في عالم اليوم، وبناء الإنسان المعاصر بدنيًا وعقليًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وتحقيق العيش الكريم للأفراد والمجتمعات، مع التأكيد على معاني وحدة الهدف والمصير المشترك الذي يجمع البشرية كلها.
فقد خلق الله، سبحانه وتعالى، البشر لعمارة الأرض ونشر الخير والتعارف والتعاون وليس للتشاحن والتنازع والإفساد في الأرض؛ يقول نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، تأكيدًا لهذه المعاني النبيلة السامية: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِد».
ومما لا شك فيه أن الفتوى الشرعية المنضبطة التي تخرج من المؤسسات العلمية المتكاملة لها أكبر الدور في استقرار المجتمع وتهيئة البيئة المناسبة لانطلاق عملية التنمية، وهذا ما تحرص عليه دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء، وتعمل على تأكيده ونشره في مجتمعاتنا المسلمة، وما مؤتمر هذا العام إلا تأكيد لهذه المعاني انطلاقًا من بلدنا مصر الحبيبة، وتحت قيادتنا السياسية الرشيدة.
- مستشار مفتى الجمهورية