خير جليس فى الزمان
في بيته العتيق في 13 شارع السلطان سليم الأول في مصر الجديدة والمسمى الآن "شفيق غربال"، استدعى الأديب الكبير الأستاذ عباس العقاد أحد العمال من الأرياف ليقوم بمهمة تنظيم ونقل الكتب من غرفة لأخرى حتى يستطيع طلاء غرفة الكتب، فلما اقترب العامل من باب المكتبة خلع نعليه، وتهيب أن يمد يده إلى الكتب، لأنه بغير وضوء!
لقد أكبر العقاد فعل هذا الشاب، حيث إنه شاب أمي لا يقرأ وليس من أهل الكتب أو تلقى العلم في المدارس والكليات، وإنما رأى أن الكتاب شيء عظيم لا ينبغي أن نلمسه بغير وضوء!
لكنه كما قال أفسد ذلك الشعور وهذه الرؤية في نظر الشاب، فعلمه أن الكتب ليست مقدسة، مثل الكتب السماوية، وإنما منها الصالح ومن الطالح ومنها النافع والضار.. مثلها مثل باقي البشر.
ليس حديثي الآن عن صحة ما فعله الشاب من عدمه، وإنما عن احترامنا نحن للكتاب، لا أدعو إطلاقاً إلى الوضوء قبل لمس الكتب، ليس علينا أن نغسل وجوهنا وأيدينا قبل أن نتناول الكتاب، وإنما علينا أن نغسل عقولنا وقلوبنا من سفاهات ذلك الزمان الذي جعل الكتاب هو آخر ما يُحترم ويصبح له قيمة بين الناس.
ليست قراءة الكتب بمعزل عن الحياة، وليس الكتاب بما فيه في واد آخر عن أودية الدنيا، وإنما الكتاب الحقيقي الذي رسم كاتبه صورته وأحسن أسلوبه ومصطلحاته هو كائن حي مصبوغ بصبغة الكاتب معبرًا عما فيه من مشاعر وخواطر وتجارب إنسانية حقيقية، ولذلك فإن من يقرأ كتابًا فقد دخل عالمًا كاملًا حقيقيًا مكتوبًا عليه اسم الكاتب!
وقد صدقوا حين قالوا: القارئ لا يعيش حياة واحدة وإنما يعيش مرات ومرات، وذلك من كثرة مروره بقراءة تجارب غيره من البشر، ومن كثرة ترحاله بين عوالم الإنسانية، وبالتالي فليست الساعات التي يعيشها المرء بين الكتب هي ساعات مقطوعة من ساعات عمره، وإنما هي إضافة حقيقية وزيادة لسنوات العمر، ذلك أن الكتاب ليس مصنوعاً من ورق وأحبار وإنما صنع من لحم ودم وعقل كاتبه.
هذه دعوة جادة لاتخاذ الجليس الحقيقي الذي ينفع ولا يضر وإنما يفيد، ويؤتى ثمرته كل حين، ولا يخدع صاحبه كما يفعل أصدقاء اليوم، فهو حقاً خير جليس في هذا الزمان.