"تضبط ساعتك على لحظة انطفاء النور".. عادات لم يتخل عنها نجيب محفوظ حتى مماته
في كتابه «ليالي نجيب محفوظ في شيبرد»، سرد الكاتب الصحفي والباحث إبراهيم عبدالعزيز، طرفًا من عادات نجيب محفوظ، وتقاليده كما رواها الكاتب الساخر، وعضو جماعة الحرافيش محمد عفيفي.
ساعة بين كل سيجارة
قال محمد عفيفي: «من جيب البنطلون الصغير، كان يخرج نجيب محفوظ ساعته الكبيرة، وينظر فيها توطئة لأن يخرج من جيب الجاكيت علبة السجائر ليشعل سيجارة، كنت أظن فى البداية أنه لا علاقة بين الأمرين، واحتجت إلى عدة أسابيع قبل أن أكتشف أنها عملية منظمة وخطة مرسومة، وأنه يرفض أن يدخن السيجارة إلا بعد أن يستوثق من أنه مرت على سابقتها ساعة كاملة».
تضبط ساعتك على لحظة انطفاء النور
وأضاف: «كذلك يستطيع الجيران– وهذا غريب بعض الشىء- أن يضبطوا ساعاتهم على اللحظة التى ينطفئ فيها النور فى حجرة مكتبه، معلنًا عن انتهائه من الكتابة.. فى لحظة الكف يجب أن يكف مهما كان من أمر، تلك اللحظة التى ربما حلت- هكذا حكى لى والله على ما أقول شهيد- وقد انتهى من السياق إلى حرف جر، فيلقى بالقلم وينهض دون أن يكتب المجرور!.. تلك أمثلة سريعة لدور الساعة فى حياة نجيب محفوظ حتى بعد أن تحولت من ساعة فى جيبه إلى أخرى تحيط بمعصمه، ولقد حاولت أن أتذكر متى حدث هذا التحول على وجه التحديد ففشلت، ولا بد على أى حال أنه كان فى فترة غير بعيدة من شروعه فى «أولاد حارتنا»، والساعة مهما كان ما هى إلا رمز عام لما تتسم به حياة كاتبنا الكبير من الدقة البالغة ومن العادات الحديدية الصارمة.. وكان للراحة بالطبع وقتها المعلوم مثل سائر النشاطات، وقد اختار لها نجيب يوم الخميس».
يوم الإجازة
وتابع: «فى تمام الساعة التاسعة من صباح كل خميس أعرف أن شيئًا معينًا يجب أن يحدث، وذلك هو رنين جرس التليفون، وذات يوم حدث ذلك التأخير الكبير وصحت مخاوفي، إذ عرفت فيما بعد أن قريبًا عزيزًا لصديقي قد مات فانشغل عن سهرة الخميس.. وفى التليفون أسمع صوت صديقى العزيز ضاحكًا مرحًا كعهده ومستوثقًا من أن شيئًا لم يطرأ مما يمكن أن يلغى سهرة شلة الحرافيش».
طقوس السهرة
وأكمل: «والسهرة بالطبع يجب أن تبدأ فى ساعة معينة، تلك الساعة التى تحددت- وفقًا لظروف كثيرة متشابكة- فى الساعة الثامنة والنصف مساءً، ومن ذلك أن «نجيب» يجب أن يكون قبل ذلك فى مقهى معين بالعباسية مع شلة من أصدقائه القدماء، وفي الساعة السابعة يجب أن يصل إلى ذلك المقهى ويقوم، وبحسبة بسيطة للزمن الذى يستغرقه التاكسي فى الوصول من العباسية إلى شارع الهرم حيث أقيم، وحيث تدور السهرة، ويمكنك أن تعرف لماذا لا يمكن لتلك السهرة أن تبدأ قبل ذلك».
وواصل: «ولقد اقترحت عليه ذات يوم– طمعًا مني فى أن أقضى الليلة معه من بدايتها أن يحول لقاء العباسية هذا إلى يوم آخر من أيام الأسبوع، فنظر إلىّ فى شىء من الاستغراب ثم ضحك، فهي إما نكتة منى، هكذا قال لنفسه وإما سذاجة عجيبة غير متوقعة، تلك التى هيأت لي أنه من الممكن تغيير هذه العادة التي درج عليها منذ عشرين سنة».
واختتم: «وعلى صوت التاكسى أشم رائحة الكفتة والكباب! وذلك يعني أن «نجيب» كان قد رأى في وقت لا أذكره، ولظروف لا أذكرها أن يسهم فى سهرة الحرافيش بكيلو جرام من الكباب، وتكرر الأمر عدة مرات فتحول إلى واحدة من تلك العادات الحديدية الصارمة، وتستطيع أن تثق بالطبع فى أن «نجيب» يقضي السهرة على مقعد معين لا يتغير أبدًا متصدرًا شلة الحرافيش التي بوصفها من عادات نجيب محفوظ لم يتح لها أن تتغير كثيرًا طوال ما يقرب من ربع قرن».