الأستاذ هيكل والعم حامد
قديما قالوا: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وبالتالي فلا تستصغر أي فكرة او معلومة يسمعها أو يراها طفل صغير.
تذكرت هذه الأفكار حينما كنت أطلع على حكاية عن الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكيف أن شخصية بسيطة قديماً أثرت فيه تأثيراً كبيراً حتى إنه قال: "إن هذا الرجل كان له دين كبير عندي"
هذا الرجل هو "عم حامد"، ذلك الرجل الذي كان منوط به حراسة البيت، وتوصيل الطفل محمد هيكل إلى المدرسة والرجوع به خوفاً عليه من شرور الطريق.
يحكى الأستاذ هيكل أن هذا الرجل "عم حامد" كان من الجنود المصريين الذين حاربوا في الجيش المصري في "القرم" بأمر من الخديوي إسماعيل، وهي الحرب التي اندلعت بين الإمبراطورية العثمانية والبريطانية والفرنسية من جانب وبين الإمبراطورية الروسية من جانب آخر، وكان الرجل معجباً بالشاعر الكبير محمود سامي البارودي، حيث إنه الشاعر الكبير وصف الجنود المصريين المشاركين بأبيات من الشعر، كان عم حامد يحفظها ويرددها على أسماع الطفل "محمد" قال فيها:
"تركوا السلاح إلى الصباح ... وبقوا يتسامرون بألسن النيران".
لقد كانت هذه الصور التي رسمها عم حامد في مخيلته الطفل محمد هي أول شرارة لاندلاع طاقة الخيال لديه، وراح يصول ويجول بخياله، حيث جعلته يفكر في صورة الحرب وشكلها، مما دفعته في بداية حياته الصحفية إلى حب التواجد في ميادين الحروب من أجل التغطية الصحفية، فقام بتغطية الحرب العالمية الثانية في العلمين مندوباً عن جريدة "الإيجيبشيان جازيت" وهو لم يتعد الخامسة والعشرين من عمره بعد! حيث قال عنها: "إن الظروف أتاحت لى أن ألمس بأطراف أصابعي مأساة الإنسان والإنسانية".
كما ذهب بعد ذلك إلى حرب فلسطين عام 1948 مراسلاً صحفياً وبعدما عاد إلى القاهرة كتب سلسلة مقالات عنوانها "النار فوق الأرض المقدسة"، ما جعل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشى باشا بنفسه يطلبه للحضور ليسأله عما يدور في أرض فلسطين.
لقد صاغ "عم حامد" ولا شك جزءاً من مستقبل هيكل الصحفي والعملي، حيث جعلته يتوق إلى الحياة الصحفية والسياسية بشكل كبير وفى سن مبكرة، وجعلته يتحمس لتغطية الحروب مما جعل عنده ما لم يكن عند غيره، وهو أنه كان في قلب الحدث يعرف ما يدور، وليس واقفاً على أعتاب المسئولين ينتظر ما يعطونه من أخبار، كل هذا جعله يتفوق على أقرانه حتى إنه فاز بجائزة الملك فاروق للصحافة ثلاث مرات في شبابه، قرر بعدها ألا يترشح للجائزة وأن يتركها لغيره.
فلا تظن أن ما يقال للطفل أو ما يسمعه ينتهي في وقت المشهد، وإنما يستمر معه في وجدانه سنوات طويلة، وربما كان له أثر في تشكيل حياته فيما بعد، فالطفل قماشة بيضاء تشكلها كما تريد، وبناء الإنسان السوي الناجح يبدأ من طفولته، مما يسمعه ويراه بين أبيه وأمه وأقاربه حتى مع الأطراف أصحاب التأثير البسيط من حوله كما حدث مع الأستاذ هيكل.