الفنان الموبايل
فى إحدى المحاضرات سألنى طالب عن فكرة فريق الصحفى الواحد «One Man Crew»، كانت إجابتى واضحة وسريعة «مفيش حاجة اسمها كده»، هذا ليس إنكارًا، بالطبع هو اتجاه موجود وله أنصاره، لكن ضرره أكبر بكثير من نفعه.
بقول ده ليه؟
بسبب فكرة الفنان الشامل التى سيطرت وانتشرت الفترة الأخيرة، حيث يقرر أحدهم أن يقدم كل شىء «يغنى، ويمثل، ويؤلف قصص، ويكتب أغانى، ويخرج، ويلحن، ويضع موسيقى تصويرية»، وفنون أخرى قريبة الصلة بعضها البعض أو بعيدة لن يهم الأمر كثيرًا.
وده مستحيل يعنى؟
قطعًا ليس مستحيلًا، لكنه أيضًا ليس قاعدة وليس المعتاد، ويجب ألا يكون.
أتحدث هنا عن حالتين بالتحديد، تامر حسنى فى فيلم «بحبك»، وأكرم حسنى فى أغنية «للى».
تامر حسنى مطرب ناجح بشكل استثنائى، ودون تحيز «لايق عليه لقب مطرب الجيل»، فهو ببساطة أنجح مطربى جيله، والدلائل على ذلك كثيرة جدًا وليس هنا موضعها.
وللحق فهو أيضًا ممثل مميز جدًا، يختار أدوارًا خفيفة ويجيد فيها، وهو فى ذلك لا ينفرد بالبطولة، بل يظل حريصًا أن يكون معه دائمًا نجوم كبار.
لو أن تامر أعطى كل تركيزه لهاتين المنطقتين ولم يرهق خياله بتقديم فنون أخرى لوصل إلى مكان ومكانة أضعاف ما هو عليه الآن، غير أنه فى تجربته السينمائية الأخيرة فعل عكس ذلك تمامًا، وقرر أن يجمع بين التأليف والإخراج والبطولة والموسيقى التصويرية وكتابة وتلحين أغنية، وفوق ذلك كله تولى أخوه الإنتاج، ويقال إن الشركة فى الأساس مملوكة لتامر.
أما الموهوب جدًا أكرم حسنى فهو أحد أهم ممثلى الكوميديا على الساحة الآن، ومن أكثرهم قبولًا، وأوسعهم انتشارًا، وأعلاهم نجاحًا، نضيف على ذلك أنه «مؤدى أغانى» خفيف الظل، وقدم أكثر من تتر لمسلسلاته وبعض أغانى الحملات الإعلانية.
غير أنه مؤخرًا قرر أن يجرب حظه فى بعض الفنون الأخرى، فما كان منه إلا أن بدأ «على الضيق»، كلمات وألحان أغنية «للى» التى غناها محمد منير!!
ولأنه ليس مجاله فقد طاله ما طاله من اتهامات بالسرقة، سواء فى الكلمات أو الألحان.
ورغم أن «خناقات الأغنية» قد انتهت تقرييًا، فإن السؤال لم ولن ينتهى: هو انتوا بتعملوا كده ليه؟
ماذا لو أن كل مبدع «عمل اللى يعرفه»؟
ولماذا الإصرار على فكرة المبدع «بتاع كله»؟
دعونا نجرى تجربة، فليقم كل منا باختيار فنان يرى أنه مبدع فى مجاله ويبحث ما إذا كان قدم تجارب فى فنون أخرى، وكلى ثقة أننا لن نجد الكثير. وإن وجدنا فلن يكون الإبداع ذاته فى كل ما يفعله، دومًا هناك مناطق للتميز.
طب إيه اللى حصل؟
ما حدث أننا تحولنا إلى موبايلات، حياتنا لم تتأثر بهذا الاختراع فقط، بل غرتنا أنفسنا، وقررنا أن يصبح كل منا جهاز موبايل.
فالمتأمل لهذا الاختراع- بل الأمر لا يحتاج تأملًا، نظرة سريعة تكفى- يدرك أن الموبايل الذى نحمله فى أيدينا إنما يحمل بداخله الكثير جدًا من الأجهزة والاختراعات التى ظل العالم قرونًا طويلة حتى يراها، وحتى تؤدى أدوارًا محددة. فى هذه الشاشة الصغيرة جدًا أنت تملك «تليفزيون وفيديو وراديو وجهاز تسجيل ومشغل تسجيلات وساعة ومنبه وسينما وكمبيوتر وبوصلة وكاميرا وجهاز إضاءة وآلة حاسبة وتقويم يومى ومفكرة»، ولو أردت لامتلكت أكثر من ذلك ببعض التطبيقات المجانية أو زهيدة الثمن.
طب وهو يعنى الموبايل أحسن من الإنسان اللى صنعه؟
هنا بالتحديد المشكلة، قرر الفرد أن يدلى بدلوه فى الكثير من الفنون والأنشطة، ناسيًا أو جاهلًا بأنه فى مثل تلك الأيام لكى تنجح لا بد أن تكون مبدعًا، ولكى تكون مبدعًا لا بد من التخصص، ولكى تتقن تخصصك لا بد من الدراسة.
لن ننكر على أحد موهبته فى كتابة الشعر أو التلحين أو الكتابة أو غير ذلك، لكن نطالب بالدراسة، قليلها أو كثيرها، نخضع موهبتنا للقواعد، فإما أن تنمو وتنضج أو يدرك صاحبها أن «الكار ده مش كاره».
والموضوع ليس فقط فى فكرة التخصص، لكن أيضًا فى نظرية الاحتراف، فكل ما يقدمه الموبايل لم يصل لدرجة احترافية الجهاز الأصلى، ما زال المصور المحترف يستخدم الكاميرا، ولم تصل التطبيقات إلى درجة إتقان البرامج على أجهزة الكمبيوتر، ولم نرَ مطربًا يسجل أغانيه إلا فى ستوديوهات، ولا مونتير يفضل الموبايل عن الـFinal Cut أو الـPremiere، قس على ذلك ما تبقى، ستجد أن فكرة الموبايل تعنى أن «الحاجات من على الوش» دون تحقيق العمق الكافى لفكرة الاحتراف.
كل ما على الموبايل يصلح للهواة، لا أنكر أن الكثير من المحترفين يستخدمونه، لكن إن وضعوا فى اختيار سيعودون أدراجهم لأدواتهم القادرة على تحقيق خيالهم بشكل أدق، وعليه فإما أن تكون «فنان موبايل شامل هاوى»، أو «متخصص محترف».
خلاص كده؟ لأ لسه..
يؤدى الموبايل وظيفة بلا روح أو جمال، يخبرك بالوقت لكنه أضاع جمال ورونق وشياكة ساعات اليد، تستطيع أن تشاهد عليه الأفلام والمسلسلات، لكنك لن تكون قادرًا على إدراك التفاصيل التى بذل فيها مبدعوها جهدًا كبيرًا، ستحتفظ بكم هائل من الصور غير أنك لن تستطيع اقتناء «ألبوم شيك» تحتفظ به لسنوات كثيرة مقبلة، اختفت تصميمات أجهزة الكاسيت والآلات الحاسبة وأجهزة الإضاءة وغيرها الكثير لصالح عدد من الأيقونات التى تؤدى وظيفتها وفقط.
ظهر الموبايل ولن يختفى، بل سيتطور أكثر وأكثر، واعتقادى أنه مع كل تطور ستزداد سطحية ما يقدمه، وأمام كل منا الاختيار، إما أن يكون «موبايل» يفعل كل شىء دون احتراف أو إبداع أو جمال، أو أن يصبح شخصًا طبيعيًا يركز فيما يجيده ويقدم ما يمتعنا ويخلده.