حسن نجمي عن «أصوات العيطة»: خريطة متكاملة للممارسات الموسيقية للنِّساء في المغرب
صدر عن دار ملتقى الطرق، وبدعم من أكاديمية المملكة المغربية، كتاب"أصوات العيطة: المرأة، الثقافة والممارسة الموسيقية التقليدية في المغرب” للباحثة الإيطالية أليساندرا تشوتشي، بترجمة نور الدين الزويتني وبتقديمٍ لحسن نجمي.
ويشمل الكتاب ست دراسات علمية، من بينها: المرأة والموسيقى، واحتراف النساء للغناء في المغرب، وتحرير العيطة من خطاب الاستشراق، والبادية في العيطة الحصباوية، وأداء أغنية العلوة: مسار المقدس والشهواني في المغرب. كما يضم الكتاب ألبوما توثيقيا.
ويقول الكاتب وللشاعر والباحث المغربي حسن نجمي عبر مقدمته لكتاب "أصوات العيطة.. المرأة، الثقافة والممارسة الموسيقية التقليدية في المغرب": “لأسباب عدة، سوسيو ثقافية وتاريخية وسياسية.. وغيرها، تأخر كثيرًا الاهتمام العلمي بغناء العيطة في المغرب بل يمكن القول إن الموسيقى التقليدية عمومًا لم تَحْظَ بالاعتبار لدى معظم أفراد النخبة المغربية، وظلت الأسئلة مطروحة لا فحسب حول ضعف وقلة الدراسات والأبحاث الخاصة بهذا الموضوع، وإِنما أيضًا حول نوعية العلاقة بين المثقفين والباحثين المغاربة بالمكتبة الموسيقية، وبما يمكن اعتباره ضعف في الاهتمام بتداول الموسيقى عمومًا أو الانتباه إِلى طبيعة الأصوات المُمَيِّزة للمغرب وكيف يمكنها أن تسعفنا على فهم التفاعلات والاختلافات الدقيقة القائمة في فضائنا الاجتماعي والثقافي، وما يمكن أن يكون لها من تقاطعات مع مختلف التعبيرات الصوتية والأنواع الموسيقية ذات الحمولات التاريخية والإثنية والجغرافية (الأورومتوسطية، العربية، الإفريقية...)، فضلًا عما تحمله أو ترتبط به أيضًا من أنساق وطقوس وأشكال وممارسات احتفالية أو عقائدية أو تمثلات جنسية أو عشائرية أو غيرها”.
وتابع: "لقد كنتُ توقفتُ في دراسة سابقة لي (غِنَاءُ العيطة، 2007) عند موقف النُّخَب التقليدية من أشكال التعبير الفني الشفاهي عمومًا، ومن غناء العيطة تحديدًا، وميل تلك النُّخَب إِلى التَّحَجُّر والانغلاق والتَّذَرُّع بالخوف على أعراف التأليف من إِدراج الأزجال والموشَّحات كما عبَّر عن ذلك مثلًا وبوضوح علي إبن بسام الشَّنْتَريني (450 هـ - 542 هـ) في كتابه "الذَّخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وكما أشار إِلى ذلك إبن خلدون في كتابه "المقدمة"... وغيرُهما.
ولفت نجمي إلى أنه يمكن القوال إن بداياتِ الاهتمام الدِّراسي بغناءِ العيطة انطلقت في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أي - للمفارقة - في فترة تأسيس الحركة الوطنية المغربية التي شكلت النظرةُ السَّلَفِيةُ ببُعْدِها الإصلاحي الدين والأخلاقي الإسمنتَ الإيديولوجي لخطابها السياسي والثقافي، ولنشاطها الدَّعَوي ضد مختلف أَوْجُه التعدد الثقافي واللغوي في البلاد، وذلك "مخافةَ التفرقةِ والمساسِ بالوحدة الوطنية وبمتطلبات المعركة ضد الأجنبي".
وأضاف: "علينا أن ننتبه إِلى أن أول باحث مغربي مهتم بتراث العيطة، إِدريس بن عبد العلي الإدريسي (1955-1909)، كان قد قدَّمَ أولى المحاضرات التي تتلمس الطريق نحو الاهتمام بهذه الموسيقى القروية ذات الأصول العربية ونَشَر كُتَيِّبًا ضم هذه المحاولات بعنوان "كشْفُ الغِطَا" في طبعة أولى سنة 1935، وفي طبعة ثانية سنة 1939، قبل أن تضع حركة المقاومة المُسَلَّحة حَدًّا لحياته ....، إذ كان، فيما يبدو، مدرجا في قوائمها السوداء الخاصة بمَنْ كانت تعتبرهم "عملاء للاستعمار" لاعتبارات متعددة ليس هنا مجال تفصيل الحديث فيها.
واشار “نجمي” إلى أن "الملاحظ أَن غناء العيطة سيواصل حضوره باعتباره ممارسة "فنية شعبية" في مختلف المحافل، في البوادي والحواضر المغربية بدون رُفْقَةٍ بحثية أو جهد معرفي، تقريبًا ظل محاطًا بالصمت ضمن أبرز الأنواع الموسيقية التقليدية المغربية التي لم تَحْظَ بأي اهتمام علمي، لا على مستوى التأليف ولا على مستوى الأبحاث الجامعية، ولا حتى كموضوع للنقاش في الندوات والملتقيات الثقافية فقط.
وأكمل: "بَدْءًا من منتصف من ستينياتِ القرن العشرين، سنبدأ نلاحظ بعض الإِشارات المقتضبة إلى هذا التعبير الموسيقي في مجلة "أنفاس"، 1966، وفي مدخل كتاب د. عباس الجراري "الزَّجَل في المغرب، القصيدة، 1970، البشير جمكار في مقالة له بجريدة "العَلَم"، 1972، ومقالة لمحمد الباشا في مجلة "الفنون"، 1975 وهما مقالتان انطباعيتان بالأساس كان يراد منهما إثارة الانتباه إلى "فن شعبي" مهمل ومنسي، ثم نقرأ بعض المقاربات المتقدمة ضمن المداخلات التي قُدمت إلى المؤتمر الخامس للمجمع العربي للموسيقى بالرباط (أكتوبر 1977)، وأشير هُنَا بالخصوص إلى مداخلتَيْ الأستاذين محمد الرَّايْسي حول "الأهازيج الشعبية بحوض سَبُو" وإدريس الشرادي حول النسق اللحني والإِيقاعي لمختلف أنواع الموسيقى الشعبية المغربية قَارَبَا فيها عدة أنماط من غناء العيطة.
وتابع: “ورغم أن عددًا من الدراسات الأكاديمية الغَرْبية، بالأخص في فرنسا وأمريكا، أَولَتْ اهتمامًا ملحوظًا بالتراث الموسيقى المغربي، بمقاربات أنثروبولوجية وإِثْنُوميزيكولوجية في الغالب، إِلا أَنَّ غناء العيطة ظل أيضًا خارج هذه الجهود العِلْمية الجدِّية باستثناء أطروحة سوسيولوجية حول الشيخات (المُغَنّيات اللَّائي يُؤَدِّين العيطة) للفرنسية فَانِي سُومْ-بُّوبَالي بعنوان ”النساءُ والهامشية في المغرب: حالة الشيخات (صدرت في كتاب لاحقًا 2001)، وكذا فصل خصصته الباحثة الأنثروبولوجية الأمريكية ديبُورا كابّْشَنْ للحديث عن الشيخات في كتابها عن (الجندر) في السوق : النساء المغربيات وإعادة النظر في التقليد (1996).
من هُنَا يمكن اعتبار الباحثة الإيطالية أليساندرا تْشُوتْشي A.Ciucci (الأستاذة حاليًا في جامعة كولومبيا بنيويورك) أَوَّلَ الباحثين الغَرْبيِّين الذي يكرسون أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في الإِثنوميزيكولوجيا حول غناء العيطة تحديدًا.
وكان عنوان هذه الأطروحة "قصائد الشَّرَف، صَوْتُ الحِشْمَة : العيطة والشيخات المغربيات" بإشراف أحد كبار الباحثين الأمريكيين المختصين في الموسيقى الشرقية، وبالخصوص الموسيقى الإيرانية والمُقَامْ الآزَرَبَيْجَاني، د. ستيفن بْلَامْ من جامعى كْيُوني City University of New York (CUNY).
وتقدم المؤلفة، ربما لأول مرة في الكتابة حول الموسيقى المغربية، خريطة شبه كاملة لأنواع الممارسات الموسيقية للنِّساء في المغرب قبل أن تخصص حيزًا تفصيليًّا لشيخات العيطة.