شيرين.. حالة أتلفها الهوى
فى بداية الألفينيات كانت الساحة الغنائية ثرية جدًا بمطربين كثر.. بعضهم مستمر من الثمانينيات وبعضهم قادم من التسعينيات وكانت لهم شهرة واسعة وثقل فنى كبير ما زال يؤثر فى جيلى حتى الآن أمثال سيمون وحنان وعلاء عبدالخالق وإيهاب توفيق ومصطفى قمر، وحميد الشاعرى الذى ينسب إليه الفضل فى هذه المرحلة بفضل ألحانه وتوزيعه واكتشافاته مواهب عديدة وموهبته الفذة التى أضافت للفن المصرى رغم ميله للون الغربى، ولكنه أحدث نقلة كانت الساحة تحتاج إليها فى هذا التوقيت ويمتد أثرها حتى الآن، وغيرهم وغيرهن، بالإضافة طبعًا للفنان العابر للسنوات والأجيال عمرو دياب.
ولكن فجأة جاءت موجة عاتية من المطربات اللبنانيات مع بدايات عام ٢٠٠٠ وقد أحدثن ضجة كبيرة بالفعل بفضل أصوات بعضهن الرائعة من ناحية، وجرأتهن فى تصوير أغنياتهن الفيديو كليب من ناحية أخرى، وهى جرأة يقبلها ويسعد بها المصريون دائمًا من غيرهن، وليس من أبنائهن.. لذلك مثلًا لم يقبلوا روبى عندما أقدمت على تصوير أغانيها بمثل هذه الجرأة بل لعنوها، ومن المطربات اللبنانيات وقتها إليسا ونوال الزغبى وبسكال مشعلانى، وبعدهن نانسى عجرم وهيفاء وهبى، وبشكل أو بآخر بدا الأمر وكأن المطربات المصريات انسحبن من الساحة شيئًا فشيئًا، أو على الأقل تراجعن خطوات للخلف أمام هذا السيل الجارف من المطربات اللبنانيات، وكأنهن فقدن المقاومة واستسلمن لفكرة انبهار الجماهير بالموجة الشامية.. ولكن فجأة تتحول الأنظار والآذان إلى صوت قوى ببحته الجذابة جدًا وهو يقول آه يا ليل.. ليرى مطربة ضئيلة الحجم وبسيطة للغاية وليست جميلة على الطريقة اللبنانية، ولكنها تحمل مظهرًا عامًا مقبولًا للمصريين يجمع بين الشقاوة وجدعنة ولاد البلد، لتقلب الدنيا رأسًا على عقب بأغنيتها وصوتها لتقف أمام هذا السيل الجارف دون سابق إنذار، والتى تحولت لترند بتصورات ومفاهيم أيامنا الآن، لدرجة أن اسمها فى هذا التوقيت كان ينطق (شيرين آه يا ليل).
وآه يا ليل كانت مجرد بداية لسيل جارف من أغانٍ كثيرة وجميلة لا يستطيع أحد نسيانها، ونبهت الجمهور إلى هذا الصوت والإحساس الجميل ونبهت أيضًا إلى أن مصر دائمًا ولَّادة، استطاعت شيرين أن تُحدث انقلابًا جديدًا فى سوق الغناء، ربما أرجع الثقة مرة أخرى لفنانات مصريات أخريات ظنن أنهن لن يستطعن الصمود فى هذا الوقت، وربما كان الجمهور المصرى أيضًا فى حاجة إلى عودة الفن الغنائى المصرى إلى عهده وعرشه مرة أخرى، فى حاجة لصوت مصرى يملأ الساحة من جديد، وقد يكون ذلك خدم شيرين بشكل كبير، لكن بالطبع لا أحد ينكر موهبتها وإحساسها الرائع، وانطلقت شيرين وتربعت على العرش لسنوات وسنوات وصنعت اسمًا لا يستهان به فى عالم الغناء، ليس مصريًا فقط بل وعربيًا أيضًا، وأصبح البعض يقول عنها إنها مطربة مصر الأولى.. وبمنتهى الأمانة ينسب إلى شيرين، فى رأيى، هذه النقلة التى حدثت فى هذا التوقيت وتحول الأنظار إلى المطربات المصريات مرة جديدة، لا سيما أنه كان هناك بعض المحاولات من مطربات أخريات قبلها ولكنها كانت فى مجملها تجارب ضعيفة، لم تؤثر فى الجمهور ولم تستطع الصمود.
إلى أن فتحت شيرين فمها ليس للغناء فقط وإنما للتصريحات والأحاديث الإعلامية والحوارات الجانبية، وبدأت فى فقد مكانة لو أن أحدًا آخر غيرها فيها لحافظ عليها وحارب وانتصر، فقد نمَّ حديثها دائمًا عن عقلية وشخصية مختلفة عن موهبتها الكبيرة، فهى شخصية عفوية للغاية، ويبدو أنها لا تحسب أى حسابات عندما تتحدث، لا لشهرتها ولا مظهرها ولا علاقاتها بزملائها وقد تجاوز الأمر عندما تحدثت عن نيل بلادها المقدس بشكل لا يليق.. فهى تقول ما يخطر على بالها فحسب، عقلها يبدو أنه فى إجازة طويلة ولا يتدخل تمامًا، غير أن الفنان أو أى شخصية عامة ليس من الطبيعى أن يتصرف بهذا الشكل، خاصة إذا كان جمهوره شعبًا عاطفيًا يتأثر سريعًا مثل المصريين.. شيرين لم تتعلم أبدًا أن الصمت فضيلة، وأن هناك ما يقال فى الجلسات الخاصة فقط، ولكن مستحيل أو من غير الطبيعى أن يقال على الملأ.. فهى تطبق حرفيًا «اللى فى قلبى على لسانى».
فهى لم تدرك بعد الحكمة من التحدث بتحفظ، ولذلك فإن الذكاء فى الحقيقة وخاصة الذكاء الاجتماعى لا بد أن يكون قرين الموهبة، ولكن يبدو أنها لا تدرك بعد أهميتها وشهرتها التى تمتد من المحيط للخليج، ولا مصريتها، فهى شئنا أم أبينا من ضمن قوى مصر الناعمة لأنها فنانة، بل سمحت لحياتها الشخصية أن تفسد كيانها الفنى، تركت الساحة منذ سنوات وانجرفت وراء مهاترات، وبسبب كثرة زلات لسانها خلقت أعداء كثر، ليس من زملائها فقط وإن كانت علاقتها بزملائها لا تعنينا، ولكن من جمهورها الذى انزعج وكره أخطاءها المتكررة، مما أثر سلبيًا بشكل كبير على شعبيتها بلا شك.
بالتأكيد مطربات وفنانات كثيرات فى كل مكان يتعرضن لأزمات شديدة، ولكن الذكاء فقط هو الفيصل، يجعل هذه تفصل بين حياتها الشخصية والعملية، وأخرى تخلط الأمور وتؤثر أزمتها الشخصية فى عملها، مما يؤخرها كثيرًا ويحدث اضطرابًا وارتباكًا يعطل تقدمها، وأعتقد صباح وتحية كاريوكا وحتى أم كلثوم، وصولًا إلى شاكيرا، كلهن أزمات حياتهن الشخصية لا تخفى على أحد، ولكن الحكمة هنا اقتضت عدم خلط الأمور وعدم السماح لمشاكلهن ونكباتهن على المستوى الشخصى أن تهدد عملهن وشهرتهن ورصيدهن عند الناس.
لا تحتاج شيرين غير إدارة لكل شىء فى حياتها، إدارة لموهبتها.. لمشاعرها.. لأزماتها الشخصية والمهنية.. لغضبها.. لكراهيتها وحتى حبها، تحتاج أن تقدر نفسها وعملها وشهرتها، تحتاج أن تجعل لعقلها مكانًا فى حياتها وأن تجعل من نفسها مؤسسة لها حسابات ونظام حتى لا تقع ولا تفشل ولا تتعثر.. تحتاج شيرين أن تصمت عن كل شىء إلا الغناء.