هاني نسيرة: «الإرهاب الإسلامي» أحد أهم عوائق التجربة الليبرالية المصرية (حوار)
أشاد الكاتب والخبير في شؤون الجماعات المتطرفة هاني نسيرة بالخطى التي اتخذتها الدولة المصرية في سبيل انعقاد الحوار الوطني ومن قبله الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
وفي حواره مع «الدستور» قدّم نسيرة رؤيته حول خطاب التيار الليبرالي الذي تبلوّر في عشرينيات القرن الماضي، وكان له بالغ الأثر في تقدّم الدولة المصرية من خلال ما أنتجه رواده من أطروحات مستنيرة.
الكاتب والخبير السياسي، المدير السابق لمعهد قناة «العربية» للدراسات، صاحب العديد من الكتب منها: «الأيدولوجيا والقضبان: نحو أنسنة للفكر القومي العربي»، «الليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة»، «أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار»، «الحنين إلى السماء والمتحولون دينياً ومذهبياً»، «القاعدة والسلفية الجهادية» «السلفية في مصر: تحولات ما بعد الثورة»، «محمود عزمي رائد حقوق الإنسان في مصر»، «الليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة».
وفي الحوار قدّم نسيرة تصوراته حول تطور الأفكار في مصر والوطن العربي المصاحبة لتيارات فكرية؛ إضافة الى محاولته استشراف مستقبل الليبراليين الجدد؛ وإلى نص الحوار:
شهدت مصر في عشرينيات القرن الماضى تجربة ليبرالية فريدة.. ما التحولات التي طرأت على التجربة لتجعل خطابها الآن خطاباً مأزوماً؟
نعم. شهدت مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى خمسينيات القرن الماضي، وخاصة عشرينياته تجربة ليبرالية فريدة، على مستوى الفكر والواقع، فقد صدر سابع دستور في العالم مصرياً في هذا التاريخ، واتسعت فضاءات الحرية والنقد. استضافت مصر الشوام الفارين من الأتراك ومن الصراعات الطائفية والأهلية، ونشطت حركة الترجمة والحوار والتجديد على مختلف المستويات الفكرية والأدبية والسياسية، ولكن التجربة تأزمت بالتحزب والتعصب وصعود حركية جماعة الإخوان المسلمين ومعارضتها الشعبوية للأفكار النهضوية والليبرالية واتهامها واستهدافها لمخالفيها، وتحولنا من صراعنا مع النهضة لصراعنا مع الأسلمة والتقليد ثم العنف، ثم جاءت تجربة يوليو وصعدت معها الأفكار الجبهوية القومجية والأيديولوجية المغلقة ثم الإسلاموية العنيفة فيما بعد بعد نكسة 1967 التي مثلت السبعينيات عقد صحوتها ثم الثمانينيات والتسعينيات أوجها وقيمتها.
في مشروعك ركيزتين أساسيتين، أزمة النهضة العربية والخطاب السلفي.. لماذا تركزت تجربتك إلى اليوم على هاتين الركيزتين؟
أن كتبي تتسع لما هو أكثر من هاتين الركيزتين يمكن جمعها في مقولة واحدة هي أزمة النهضة العربية والبحث عن معالم لنهضة عربية ثانية تتجاوز عوائقها وإعاقتها عبر نقد الخطابات الفاعلة فيها، ومنها الخطاب القومي أو الخطاب السلفي أو الخطاب الليبرالي وغيرها، ما اهتممت به أو من ظواهر موجودة فيها، أبحث الحقيقة عن الإنسان العربي في هذا الزمان، عن سلامه وسلامته ورفاهه وحريته، عن شراكته وفعاليته الحضارية في وطنه والعالم، عبر مفاهيم التعددية والحوار والأنسنة والاعتدال في فهم النص الديني ومواجهة التطرف والتكفير الديني أو السياسي، وربما لهيمنة كلا الخطابين المذكورين السلفي الديني والقومي الأيدويولوجي الانغلاقي خصصت لهما كتابين أو أكثر في هذا السياق.
في تقييمك، هل ترى أن خريطة مراكز الفكر في الوطن العربى تلعب دورًا في مواجهة الخطاب المتطرف أم لا.. ولماذا؟
بالتأكيد تقوم مراكز الأبحاث ومضخات الأفكار من الفضائيات حتى السوشيال ميديا بدور مهم في مواجهة الخطاب المتطرف منذ عام 2001 وبعد عام 2011 الذي كان ربيعاً عربياً ثم تحول ربيعاً إسلاموياً عام 2012، ثم ربيعاً داعشياً عام 2013 بإعلان داعش خلافتها، حيث نشطت مراكز الأبحاث والأفكار والمفكرون والكتاب العرب في القيام بدورهم في نقد الأيدولوجية الداعشية والمتطرفة عموماً، وكشف وتعرية العلاقات بين تلويناتها، وفضح تجربتها وأزماتها ولا يمكن نكران هذا الدور بحال، فالتطرف وجماعاته أعاد الاعتبار للفكر وقراءات التراث والفلسفة والتراث العالمي، التطرف خطاب وأيدولوجية وهذه أداة تجنيد وانتشاره ومن هنا كانت مواجهته عبر الخطاب والأفكار أولاً وتعرية وتفكيك هذه الأيدولوجية، وهو ما نجحت فيه العديد من الأبحاث في المنطقة العربية وغيرها على السواء.
لا تزال تدافع عن الخطاب القومي رغم ما حدث في العالم من تبدلات.. وما المقصود بأنسنته؟
تقصد كتابي المبكر «الأيديولوجيا والقضبان: نحو أنسنة للفكر القومي العربي» الصادر سنة 2002 على ما أظن، فارق بين القراءة النقدية للأيدولوجيا القومية وخطاباتها المختلفة، بل وخطابات تجديدها كما حاولت في الكتاب، وبين الدفاع عنها، الأيدولوجيا القومية كانت ولا زالت حاضرة في خطاب كثير من التيارات، ومما يعرف الآن بتيارات الممانعة والمقاومة، وهي كانت المسيطرة على الفكر العربي حتى عامي 2003 وعام 2011، ولا زالت مراكزها نشطة، على الأقل على المستوى النظري والثقافي، وما عرضته في هذا الكتاب المهم كان ضرورياً وجوهرياً حيث تناولت حينها أفكار المفكرين القوميين الكبار وأحزابهم وتجربتهم وكذلك محاولات التجديد في محاولة للأنسنة، التي أقصد بها البحث عن الإنسان عن الفرد عن المواطن عن الحقوق، كيلا تبتلع الجماعات والسلطات الأفراد وحرياتهم واختياراتهم.
الكتاب مهم خاصة وأني لا زلت أستدعيه في قراءة تصورات كالأمة عند القوميين والوحدة والدولة عندهم وأزمة هذه التصورات، وأهميته تنبع من تأثيرات الفكرة القومية على الفكرة الإسلاموية السياسية بالخصوص، والتلاقي عندهم في تركيزهم على مفهوم الأمة بالعكس والضد لمفهوم الوطن والدولة الوطنية أو القطرية حسب تعبيرات القوميين، القوميون أثروا في الإسلاميين والآخرون كذلك أثروا فيهم، مقولة الوحدة العربية أو الإٍسلامية متداخلتان وتتجاهل التاريخ وانقساماته وصراعاته.. الكتاب على المستوى النظري مهم وكذلك على مستوى الواقع لا زالت التيارات القومية موجودة، من القوميين العرب إلى البعث إلى الناصرية الى غيرها وموجودة في كثير من الدول والمجتمعات العربية ولا تزال نشطة ومهم قراءتها ومعرفة التأثيرات المتبادلة بين التيارات المختلفة.
هل ترى أن الليبراليين الجدد تجاوز خطابهم الزمن أم في حاجة لتحديثه.. ما المطلوب في اعتقادك؟
سؤال مهم، رغم تبخر وشتات الليبراليين الجدد في العالم العربي الذين ظهروا بعد سقوط العراق سنة 2003 نتيجة وفاة بعض رؤوسهم وسياق ما بعد الثورات العربية سنة 2011 إلا أن الملاحظ أن الليبرالية الجديدة تعود اقتصادياً وتسود العالم والمنطقة العربية، حسب سياسات الدول، وقرارات مؤسسات البريتون وودز، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لكن الليبرالية السياسية مأزومة في المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، نتيجة أزمة الديمقراطية وغياب الديمقراطيين ووقوعهم بين مطرقة التطرف ومواجهته وهو الأمر الذي نحتاج معالجته في المستقبل عبر دمقرطة الشأن العام وفصله عن الاستبداد الأيديولوجي والديني وفتح فضاءات للتعددية والتنوع في المجتمعات والتمكين للتنافسية الرشيدة التي ترفض العنف وترفض الأحادية في مختلف أنماطها.
لماذا ركزت فى تجربتك على محمود عزمى وتجربته في حقوق الإنسان.. وبمناسبة حقوق الإنسان ومسألة الحوار الوطنى الآن هل من الممكن أن تقدم لنا من رؤية محمود عزمى ما يصحح مسارنا الآن تجاه هذا الملف؟
محمود عزمي كان مفكراً منسياً ومظلوماً، وهو أول مثقفي الاستنارة العرب اهتماماً بحقوق الإنسان، وطالب بها منذ التحضير لدستور سنة 1923 حيث كتب في جريدته الاستقلال «نطلب حقوق الإنسان ولا نطلب سواها»، وحين طالب بمدنية القوانين بقوة، فهو كان أول المدافعين عن الدولة المدنية ومدنية التشريع في مصر مع دستور سنة 1923 كما أنه أول من دعا لتأسيس نقابة للصحفيين واعتماد حرية الرأي وسلطة الصحافة ودورها، وكان كتابي عنه إنصافاً للتجربة الليبرالية في عشرينيات القرن الماضي في بعض صفحاتها المنسية ودعوة لاستعادة الذاكرة وملء فجواتها حيث نبدأ من حيث انتهى الآخرون ولا نبدأ من حيث بدأوا دائماً، فكثير من قضايا كأنها تولد في فراغ رغم أن في تراثنا القديم والحديث إضاءات ونضالات ومعارك ونتائج مهمة يمكن أن نبني عليها في مسارنا الحاضر والمستقبلي.
ولدي أمل كبير في الحوار الوطني المزمع انطلاقه خلال هذا الشهر، وما سبقه من استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، ومع إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عاماً للمجتمع المدني، فطبيعة مصر الحوار والإنسان المصري مبدأ وحقيقة منذ فجر التاريخ والضمير.
إلى الآن ما أبرز المحطات الرئيسية التي أثرت بالسلب على تجربة الليبرالية المصرية؟
أكبر مشكلة أن الليبرالية عموماً هي الحرية، هي فكرة وليست أيديولوجية، وكثيرًا ما يخونها أنصارها وتتحول أحزاب ليبرالية أحزاب أيديولوجية قومية ودينية ويتاجرون بفكرة اللبرلة والحرية والدمقرطة ثم يتنكرون لها، تنكر لها إسماعيل باشا صدقي حين تولى الوزارة في ثلاثينيات القرن الماضي وألغى دستور سنة 1923 وتنكر لها حزب الوفد في بعض مراحله، للأسف افتقد العرب تياراً ليبرالياً ناضجاً ومؤثراً فترات طويلة وإن لم يفتقدوا فكراً ليبرالياً، وظني أن فترة التجربة الناصرية وإلغاء الأحزاب ثم فترة الصحوة ثم الإرهاب الإسلامي والديني عموماً كانت أهم العوائق للتجربة الليبرالية.
ماذا عن حرب الأفكار التي يقودها بعض مجموعات المصالح عبر الواقع الافتراضي وأثرها على العقل الجمعي المصري؟
هناك حرب شائعات وسجالات مستمرة في المشهد العربي الراهن، وهي سجالات آنية وحدثية غير عميقة، تحملها السوشيال ميديا وطبيعتها المتسارعة، وتأثيراتها لانهائية على الفرد والمجتمع، فكل فرد يمكن أن يصير نجماً بإثارة أي جدل ممكن، وهذا يحتاج في رأيي لمنطق السياسات الثقافية، واستراتيجية واضحة لذلك، مواجهةً للتطرف ومواجهةً لكل مرفوض وتعبيراً عن الهوية المصرية المتوازنة، والمتعايشة بطبيعتها المتنوعة منذ فجر التاريخ، حيث كان الجميع يهاجرون لمصر وينصهرون في بوتقتها بعبقرية المكان والإنسان المصري.
أخيراً وليس آخراً.. أن إردنا أن نضع رؤية مستقبلية لخطاب الليبراليين الجدد في مصر.. ماذا تكون؟
الليبراليون الجدد كتيار يمكن القول إنه انتهى، والبعض يوظف الليبرالية في براجماتية تسيء إليها، باعتبارها مجرد نقد للتراث أو للدين أو العكس. نحن بحاجة برأيي الآن للتمكين لمعقولية التنوع التي تتجاوز الأحادية في كل شيء.
أما الليبرالية الجديدة عالمياً فهي تراجع نفسها كإحدى مخرجات الحداثة التي تصحح من مسارها باستمرار، وعربياً لا شك أن مشهداً عربياً تشكل في السنوات الثمانية الأخيرة، يختلف عن سوابقه، وطنياً واقليمياً ودولياً، ولا بد من استيعابه والاستعداد لما بعده.