على جمعة: الإسلام وازن بين واجبات المسلم وما تطمح إليه نفسه
قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، لقد جبلت النفس البشرية على التطلع للمستقبل، والطموح إلى المراتب الأعلى دائما، وهو ما حدا بالبعض إلى الجموح لتحقيق أهدافه وأحلامه، مستندا إلى مبدأ: «الغاية تبرر الوسيلة» دون نظر إلى ما تمثله تلك الوسيلة من خير أو شر، وهو أمر شديد الخطورة، يؤثر بالسلب على الفرد والمجتمع، والطموح هو السعي باتجاه الوصول إلى أعلى الأهداف، وحتى يصل الإنسان إلى ما تطمح إليه نفسه في ظل الالتزام بالمبادئ التي قررها الإسلام.
ويجب أن يكون لديه الدافع المحاط بالأخلاق التي حددها القرآن الكريم والسنة النبوية، وإلا أصبح الطموح جموحا يوشك أن يودي بصاحبه ويدمره.
وتابع «جمعة»، عبر صفحته الرسمية، قائلا: لقد أوضح لنا رسول الله ﷺ الطموح الصحيح في أسمى صوره، وزرع فينا حب التميز والتفوق والحصول على أسمى المراتب في كل مكان نعمل فيه، فالتواضع والزهد في الدنيا -اللذان دعا إليهما الإسلام- لا يعنيان أبدا أن يقبل المسلم الحد الأدنى أو ينزوي وراء الآخرين ويكون في ذيلهم، ولذلك حثنا رسول الله ﷺ على العمل لبلوغ الغاية والهدف الأسمى لكل مسلم فقال: «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى, فإنه سر الجنة» (المعجم الكبير للطبراني)، كذلك علمنا أن نعظم من رغباتنا عند الدعاء، فقال ﷺ : «إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت, ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» (مسلم).
وأوضح " جمعة" قائلا: الإسلام -كما دعا إلى الطموح لنيل المنزلة العليا في ظل مبادئه السامية- جاء أيضا ليهذب النفس البشرية عن جموحها ويقوم سلوكها ويهديها سبيل الرشاد، فالنفس مائلة بطبعها إلى التوجه إلى السيئ، كما أكد القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) [يوسف:35]، وهي غالبا ما تتبع الهوى بغية إشباع رغباته، ومن هنا جاء الإسلام ليعلمنا كيف نكبح جماح تلك النفس حتى تستكين وتعود إلى جادة الصراط المستقيم، وسبيل ذلك تربية النفس على طاعة الله ورسوله في كل شيء، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) [آل عمران:31-32]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال:20].
وأضاف: لقد وازن الإسلام بين الواجبات التي فرضها على المسلم وبين ما تطمح إليه نفسه البشرية، فعمل على ألا تكون فروض الدين شاغله أمره كله وداعية لترك دنياه، بل أمره بالجد والسعي في طلب الرزق وإعمار الأرض. قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10]، وقال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص:77].
وعن حنظلة قال: كنا عند رسول الله ﷺ فوعظنا فذكر النار، ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولا عبت المرأة، فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله نافق حنظلة فقال: «مه». فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل فقال: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» (مسلم)، ومن ذلك ما قاله عبد الله بن عمرو بن العاص: "احرز لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" (مسند الحارث).
وأشار "جمعة" إلى أن الاستغراق في المأمول بلا حدود هو الطموح الزائد الذي ينقلب إلى جموح، وهو أمر مرفوض في الإسلام، قال الله عز وجل: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء:73]، أما إذا أعاد الإنسان ضبط هذا المأمول في إطار المشروع, وفي إطار ما أحله الله وأباحه ودون الخروج عن الهدي النبوي الكريم، وبما لا يخالف النظام العام، فسوف يصل إلى هدفه ويحقق طموحه الذي يأمله دون منغصات أو وخز ضمير أو نظرات مستهجنة من البشر حوله، ويكون بهذا قد حقق التوازن والاتساق بين ما تطمح إليه نفسه وبين ما يأمره به ربه والإنسان المسلم حين يحقق هذا التصالح مع ذاته ونفسه يصل إلى التسامح والتصالح مع الآخرين من حوله، فيعيش المجتمع المسلم في طمأنينة واستقرار، لأن كل فرد فيه يعمل على جلب النفع ودفع الضر، سواء لنفسه أو لغيره، تحت قاعدة: المسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ومن ثم كان سبيل المسلمين لا إفراط فيه ولا تفريط.