الوجبة الأخيرة.. «الدستور» تحقق في أسماك الموت بالأسواق
مايو 2010، تاريخ حُفر في ذاكرتها لم تنسها طيلة حياتها، فقدت فيه زوجها ورفيق دربها، وكاد أن يكون هذا العام هو العام الأخير في حياتها وحياة أطفالها، بعد تعرضها لحادث مأساوي صادم نتيجة تناول سمك الأرنب السام.
أم هاشم، أرملة تقيم بمدينة بورسعيد، حاولت لسنوات تتعافى من فراق زوجها ومازالت لم تستفق بعد من تبعات الصدمة، كلما حاولت إجبار ذاكرتها على النسيان، وجدت المشهد أمام عينيها كمسرحيّة مرعبة، جسدت فيه هي وشريك عمرها وفلذة أكبادها دور البطولة: "قام زوجي بشراء سمكة كبيرة مقطعة فيلية من أحد تجار السمك بسوق على في حي الزهور، وقمتُ بطبخها، وجلسنا لتناولها، حينها أعجب زوجي وابنتي الكبرى بمذاقها، وتناولوا كميات كبيرة منها، في حين رفضت ابنتي الصغرى البالغة من العمر سنتين أن تأكل منها بشراهة".
بعد تناول الوجبة، شعرت الأم بالنّعاس والدوخة الشديدة، أرجحت ذلك لأعراض الحمل، فأخذت قسطًا من الراحة والنوم لم تتعد ساعة، وأفاقها من نومها الإعياء والغثيان الشديد، لتفاجئ بأن زوجها وأطفالها يعانوا من الشيء ذاته.
الوجبة الأخيرة
أسرع زوجها على الفور إلى المستشفى وتم تشخيص حالته بأنه تعرض للتسمم وطلب منها المجئ هي وصغارها إلى المستشفى لتلقي مصل التسمم، لكن حين خطت قدامها أعتاب المستشفى وجدت زوجها جثة هامدة، لم يتمكن الأطباء من إنقاذه، فصعدت روحه السماء قبل استكمال باقي العلاج.
لم يكن أمام أطباء المستشفى وسيلة لنجدة باقي أفراد الأسرة سوى تخصيص سيارة إسعاف لنقلهم إلي مركز السموم بالقاهرة، وبالفعل تم نقلهم، وإنقاذ حياتهم في اللحظات الفارقة، خاصة أن حالة الابنة الكبرى لم تكن مبشرة على الإطلاق.
تروي الأم كواليس المشهد داخل سيارة الإسعاف: "ماكنتش حاسة بحاجة حواليا، مش قادرة اتنفس، جسمي كله مشلول، قلبي كان هيقف، ولما عرفت إن زوجي مات، فقدت الأمل في أني أعيش أنا وبناتي"، وبعد تحسن حالتهم، قامت الأم برفع قضية على تاجر السمك، وتم معاقبته بعقوبة هزيلة بالحبس سنة واحدة، لم تكن كافية لشفاء غليلها وتعويضها عن زوجها الحنون وتعويض أطفالها الثلاثة عن رعاية أبيهم.
ناشدت الأم خلال حديثها لـ"الدستور"، الجهات الرقابية بضرورة التفتيش على الأسواق بصفة مستمرة للقبض على مروجي الأسماك المسمّمة، كما رغبت في تغليظ عقوبة متداوليها؛ حتى يكونوا عبرة لغيرهم من التجار منعدمي الضمير.
إنذار خطر
أسرة كاملة مكونة من 5 أشخاص تعرضت للتسمم عقب تناولها وجبة من سمكة الأرنب السامة في الأيام القليلة الماضية، هذا ما أعلنت عنه مديرية الشئون الصحية بمحافظة بورسعيد، محذرة بعض التجار ممن يقومون بسلخ السمكة وبيعها على شكل قطع فيليه لإخفاء ملامحها، حتى لا يتمكن المواطنون من معرفة نوعها، بوقوعهم تحت المسئولية الجنائية التي تعرضهم للحبس.
واستدعى الأمر وزارة الصحة بث فيديو توعوي حول سمكة القراض أو النفيخة أو سمكة الأرنب التي تنتشر في الأسواق، وتؤدى إلى الوفاة، كما حذرت فيه من تناول أو صيد سمكة القراض، لأنها سمكة سامة تؤدى إلى الوفاة، وليس لسمّها مصل للشفاء، وتعرف بالسمكة الأشد فتكًا بالعالم.
فالسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن تحجيم وبال هذه الظاهرة المتكرر حدوثها، ما هي الثغرة التي تسمح بإغراق الأسواق بمثل تلك الأنواع من الأسماك المحرم تداولها؟ فرغم رقابة شرطة المسطحات، إلا أن الكميات الهائلة من الأسماك المسمّمة في الأسواق وتصل للمواطنين.. تجعل السؤال الجوهري المطروح هو.. متى تنتهي مواسم التسمم المملح؟
"الدستور" تحدثت مع ضحايا سمك الأرنب السام، وحاولت الإجابة عن الأسئلة التي وردتنا من خلال التواصل مع الجهات المعنية.
وجبة سامة
في يناير 2019 استيقظت عزة ربيع، ربة منزل مقيمة بمنطقة أبو العباس بالإسكندرية من نومها في الصباح الباكر، متوجهة إلى حلقة السمك بالأنفوشي، لشراء وجبة غذاء تعدها لزوجها ولأبنائها، فلفت انتباهها سمك ذوو ملامح غريبة، رأسه تمثل أكثر من ثلث حجمه، لتستفسر من الصياد عنه، فرد عليها مسرعًا الصياد عنه: "ده سمك طعمه حلو وكمان سعره رخيص"، فقامت بشراء 3 كيلو منه دون أن تعلم أنه سمك الأرنب السام.
فور عودتها من المنزل، قامت بتنظيف السمك وطهيه، وانتظرت هى وأطفالها الأربعة لحين عودة زوجها من عمله؛ لتناول الغذاء معه، لكن هاتفها زوجها وأخبرها بعدم انتظاره؛ كونه سيتأخر في العمل، فتناولت هى وأطفالها الطعام، حينها شعرت بدوخة شديدة وغثيان وتنميل في جسدها بشكل مرعب: “مكنتش قادرة اتنفس ولا أتحرك".
لم تشعر السيدة الأربعينية بنفسها سوى وهي داخل العناية المركزة، متذكره آخر مشهد جمعها بأطفالها وهما على طاولة الطعام يتناولون الغذاء، لتستفيق وتسأل زوجها عن أبنائها، ليخبرها بأنه بعد عودته من العمل وجدهم ملقون على الأرض، فاستعان بجيرانه واتصل بالإسعاف التي نقلتهم إلى مركز السموم بالمستشفى الأميري.
وبعد وصولهم للمستشفى تم عمل غسيل معدة لهم، وكانت حالتهم غير مستقرة، ولديهم انخفاض شديد في معدل ضربات القلب وصعوبة حادة في التنفس، ما تطلب الأمر احتجازهم في العناية المركزة؛ نتيجة لتناولهما كبدة السمك وهي المنطقة التي تتركز بها السموم بكثرة.
اختتمت الأم حديثها، لـ"الدستور"، موجهة نصيحة لجميع الأمهات بتوخي الحذر عند شراء الأسماك الغريبة داخل الأسواق، مطالبة الجهات الرقابية بضرورة القبض على هؤلاء الصيادين الذين يتاجرون بأرواح البشر.
الوفاة بعد ساعتين فقط
أكد د. محمود عمرو، مؤسس المركز القومي للسموم بجامعة القاهرة ورئيس لجنة السُّميّات بأكاديمية البحث العلمي، أن المادة السامة الموجودة بسمكة الأرنب تسير داخل جميع جسدها، وبالتالي لا يجوز تناولها أو التعامل معها إطلاقًا حتى مع تنظيفها جيدًا؛ كونه لا يمنع التسمم.
وأوضح أن أعراض التسمم تكون عصبية وتبدأ بشلل تدريجي، وبعد مرور ساعتين يتحول إلى شلل تام، ثم يتأثر الكبد والكُلي، ويشعر المصاب بتميل في الأطراف ورعشة وعدم اتزان وغيبوبة، لافتًا إلى أن الوفاة تحدث خلال ساعتين أو ٤ ساعات كحد أقصى من تناول السمك، وتعتمد على كمية السمك التي تناولها المصاب، ومدى معاناته من الأمراض المزمنة، فضلًا عن المرحلة العمرية له.
تابع مؤسس المركز القومي للسموم بجامعة القاهرة: "عند ملاحظة أي أعراض، ينبغي على المصاب الانتقال فورًا للمستشفى؛ حتى يجرى إنقاذه بالتنفس الصناعي وتناول مضاد للسموم، نظرًا لأن السم قادر على الافتاك بالشخص خلال نصف ساعة".
ولفت إلى أن سبب انتشار سمكة الأرنب هو بيعها من قِبل الصيادين بعد إخفاء معالمها بشكل كبير، وبالتالي لا يوجد أي علامة يمكن أن يستدل بها على السمكة، خاصة أنها تباع على هيئة سمك الفيلية، مشيرًا إلى انتشارها بشكل كبير في المدن الساحلية مثل الإسكندرية ودمياط وبورسعيد.
كارثة سمك الفيليه
روت سعاد عبد الله، 29 عامًا، ربة منزل مقيمة ببورسعيد، تجربتها المريرة مع سمك الأرنب السام، الذي كاد يقضي على حياة طفلها، لولا إن شاءت العناية الإلهية إنقاذه ومنحته فرصة أخرى للحياة.
وقالت إنها اعتادت على شراء سمك الفيلية؛ كون أطفالها يحبونه، فهي تعوض عدم تناولهم للحوم الحمراء بتناولهم الأسماك خاصة الفيلية، الذي تبتاعه بصفة مستمرة من أحد المحلات الشهيرة بسوق حي العرب، ولكن ذات مرة لم يكن لديها متسع من الوقت، لذا ابتاعته من محل أخر بالسوق؛ كون المحل الذي اعتادت الشراء منه يقع في أخر السوق.
وأعدت الأم السمك، وانتظر أطفالها تناول وجبتهم المفضلة، ولكن أحد أطفالها يدعى مالك، 9 سنوات، لم يطق الانتظار، فدخل المطبخ على والدته، وطلب منها أن تحضر له شريحة من سمك الفيليه لحين انتهائها من تحضير الطعام، فمنحته الأم ما يريد.
لم تتعد دقائق بعد تناول الطفل السمك، إلا ووجدته الأم مغشيًا على وجه في الأرض، فبكت صارخة لم تعرف كيف تتصرف، عجز ذهنها عن التفكير حول ما أصاب طفلها، أسرعت على الفور بطفلها، إلى مستشفى دار السلام، والطفل في وضع مأساوي حاد.
وقع خبر تسمم طفلها على مسامعها كالصاعقة، فقد علمت من الأطباء أن ابنها تعرض لحالة تسمم، فبكت منهارة:"ابني ما كلش غير شريحة سمك فيليه"، فأخبرها الطبيب أن بعض أصحاب المحلات يقومون بسلخ الأسماك المسمّمة وبيعها على شكل قطع فيليه لإخفاء ملامحها؛ حتى لا يتمكن الأفراد من معرفة نوعها.
اختتمت الأم: "ده كان أسوأ يوم في حياتي، ابني كان هيموت بين أيدي، لازم يكون في رقابة على أصحاب المحلات"، موجهة نصيحة للتجار وأصحاب المحلات بمراعاة ضمائرهم، النظر إلى أرواح المستهلكين.
صياد: إقبال من السريحة وأصحاب المحال على سمك الأرنب السام
قال زكي متولي، صياد بمدينة بورسعيد، إن سمكة الأرنب تتواجد بقلة في البحر، وتتزايد في أعماقه وأنه حين يرى تلك السمكة في شباكه يرميها في البحر مباشرة؛ كونه يعلم مدى خطورتها: "زي ما بخاف على نفسي، وعلى عيالي.. لازم أخاف على غيرى".
وأكد أنه لديه رفاقه من الصيادين يقومون بصيدها ووضعها بمخابئ سرية داخل المركب؛ تجنبًا أن يراها أفراد شرطة المسطحات المائية، التي تعرضهم المسألة في حال رؤيتها مع الصيادين، مؤكدًا أنه بالرغم من حظرها لكن هناك إقبال كبير من السريحة وأصحاب المحلات على طلبها.
بائعو الأسماك: التنظيف الجيد ينجي من التسمم
وقال محمد سنوسي، أحد السريحة في حلقة السمك بالأنفوشي، إن سمك الأرنب رخيص الثمن وهو ما يدفعهم لابتياعه من الصيادين وبيعه للمواطنين الذين يردون وجبة لإشباع أولادهم: “بعرف الزبائن أن السمكة دي فيها نسبة سم لازم يغسلوها كويس ويرموا رأسها وكبدتها عشان بيكون فيها سم كتير".
وذكر محمد على، صاحب أحد محلات الأسماك بالأنفوشي، أنه يعلم أن سمك الأرنب بها نسبة سموم، لكن يقوم بتنظيفه وغسله جيدًا، ويرمى رأسه وكبدته وينظف خياشيمه؛ لإزالة السم منه، ومن ثم سلخ جلده، وتقطيعه إلى شرائح فيليه، ويبيعه إلى زبائنه، موضحًا أن طريقة غسيل السمك هي التي تنقذ من يتناوله من الإصابة بالتسمم، لذلك يولى عملية تنظيفه عناية فائقة، مضيفًا "بقالي ٤ سنين بغسله كويس وببيعه ومفيش زبون اشتكى".
شرطة المسطحات: اكتشفنا مخابئ سرية لتهريب سمك الأرانب
ذكر محمد سعد، أحد أفراد شرطة البيئة والمسطحات بإدارة السويس، أنه بالرغم من قيامهم بحملات متكررة؛ لرصد تجاوزات الصيادين في صيدهم للأسماك محظورة التداول في الأسواق، إلا أنه يتم ضبط كميات كبيرة منها داخل الأسواق، ما أثار حيرتهم.
وأوضح أنه تم اتهامهم بالتقاعس عن أداء دورهم، واتهامهم بأنهم شركاء للصيادين في هذه الجريمة وحصولهم على أموال منهم في مقابل السماح لهم بتمرير هذه النوعية من الأسماك إلى الأسواق.
وتابع "اكتشفنا في الفترة الأخيرة أن الصيادين يجهزون مخابئ سرية داخل القوارب لتخزين ما يصطادوه؛ لعدم التعرض للمسألة، ومن ثم معرفتهم بهذا الأمر صادروا كميات كبيرة من سمك الأرنب المسمّم بحوزة بعض الصيادين".
العقوبة تبدأ بالسجن عام وتصل إلى المؤبد
وقال المحامي أيمن محفوظ، القانون يجرم الاتجار بالأسماك السامة وتداولها بالأسواق، وفقًا للقانون المنظم لأعمال الصيد رقم 124 لسنة 1983، وهو يحذر من منع وتداول أسماك الأرنب السامة، فتصل عقوبة الصياد أو صاحب المحال مدة لا تقل عن عام وتصل إلى السجن المؤبد.
ولفت إلي أن بيع الأغذية المسمّمة التي تمثل ضرر على صحة المواطنين، وتلحق السموم داخل أجسادهم، تندرج أيضًا تحت قانون مكافحة الغش التجاري ٢٨١ لسنة ١٩٩٤، الذي ينص على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وتصل إلى المؤبد في حال وفاة الأشخاص المصابين بالتسمم