في ذكراها .. "سفيتلانا أليكسيفتش" توثق شهادات ضحايا كارثة مفاعل تشرنوبيل
في مثل هذا اليوم 26 أبريل من عام 1986 شهد مفاعل تشيرنوبل أكبر كارثة نووية عرفها العالم٬ قوة الانفجار نسفت سقف المفاعل الذي يزن 2000 طن من الفولاذ وانطلق ما يوازي 8 طن من الوقود النووي إلى السماء. تدخلت بعدها فرق الانقاذ لاطفاء الحريق و التي كانت تجهل تسرب مواد خطيرة مثل اليورانيوم و البلوتونيوم و السيزيوم و اليود ونتج عنه تعرضهم لمستويات خطيرة من الاشعاع الذي وصل آلاف أضعاف المستوى العادي تسببت في الأشهر اللاحقة في وفاة 36 شخصا أغلبهم من عمال الاطفاء وعمال المحطة.
حشد حوالي 600 ألف شخص من كل الانحاء أغلبهم كان من أفراد الجيش بالاضافة إلى قوات الاطفاء و الدفاع المدني و عمال المناجم شاركوا في عمليات اطفاء الحرائق و ازالة مخلفات الانفجار التي كانت مشبعة بالاشعاع اضافة إلى إخلاء المدن المجاورة و قتل كل الحيوانات بعد اصابتها بالاشعاع.
أدى الحادث و ما نجم عن الاشعاعات إلى وفاة حوالي 2000 شخص حسب ارقام الاتحاد السوفياتي و 8000 آلاف حسبما صرحت به أوكرانيا بعد انفصالها و ذلك في الأشهر و الأعوام التي تلت الحادثة اضافة إلى اصابة مئات الالاف بالاشعاعات بدرجات متفاوتة ما سبب للكثير منهم الأمراض خصوصا السرطان و الاعاقات و التشوهات و بلغت الخسائر المادية أكثر من ثلاثه مليارات دولار اضافة إلى تهجير أكثر من 200 ألف ساكن و تحول مدينتي شرنوبل و برايبت إلى مدن اشباح.
ــ "سفيتلانا أليكسيفتش" توثق شهادات ضحايا كارثة تشرنوبيل
في كتابها "صلاة تشرنوبل" والذي فازت عنه "سفيتلانا أليكسيفتش" بجائزة نوبل للآداب 2015 ٬ النسخة المعربة للكاتب أحمد صلاح الدين من اللغة الروسية مباشرة٬ نقلت"سيفتلانا" قارئها لأجواء ذلك الكابوس المرعب٬ والذي لا يستوعبه العقل إلا كفيلم سينمائي مغرق في الظلام والدماء والموت وفناء العالم ونهايته .
نقلت سفيتلانا حكايات/ شهادات "مواطنين تشرنوبل٬ أو كما سموا هم أنفسهم أناس تشرنوبل" في صيغة مونولوجات تتفاوت في الطول والقصر٬ يغلب عليه طابع المأساة من وجهة نظرها٬ وإن كانت من وجهة نظر المتلقي الجحيم بعينه أو ما هو أسوأ من الجحيم لو كان هناك واحدا. علي أن أشد من إصطلي بذلك الجحيم هم الأطفال ولنا أن نتخيل ــ خصوصا الأمهات ــ أطفال ولدوا مشوهون نتيجة تعرضهم للأشعاع وهم في أرحام أمهاتهم٬ فمن فتاة صغيرة في الصف الخامس تشنق نفسها بعدما لم يتحمل عقلها بشاعة الفناء من حولها٬ مرورا بأخري حديثة الولادة تعرضت في يومها الثاني علي الأرض لعملية جراحية٬ فقد ولدت بكلية واحدة لم تكتمل فتحة الشرج وبدون عضو تناسلي.ولم تهبها الدولة إلا تقريرا طبيا بعد أربعة سنين٬ يربط بين حالتها المرضية والإشعاعات٬ مؤكدين أن ما أصابها عيوب خلقية ! أو الطفل الآخر ذو السبع سنوات المصاب بسرطان الغدة الدرقية٬ عندما يحاول أحدهم أن يخفف عليه ويمازحه يجيبه:"لا داعي أن تدعي أني سأعيش٬ أعلم أني سأموت"ياألله كيف حولت الكارثة الإشعاعية طفل صغير لعجوز٬ يصل لقناعة يقينية أنه سيموت عما قريب؟. وغيرها العشرات من حكايات إنتهاك الطفولة والحياة نفسها٬ لا تقل فيها فاجعية فرقة الأطفاء والشرطة التي أستدعوها علي عجل عقب إنفجار محطة الطاقة٬ والغبار الذي أستنشقوه حتي صارت رئاتهم تضيئ في صور الأشعة٬ عن مأساوية الخيول والبقر٬ القطط والكلاب التي كان علي تلك الفرقة أن تصطادها لخطرها الإشعاعي. "دفنا الأرض في الأرض وغطيناها بالأرض" .
أما في شهادتها تقول إحدي النازحات من مدينة “بريبيات”: “وقع هذا ليلة الجمعة ــ صبيحة السبت ــ يوم عادي، في الصباح، لم يكن هناك ما يثير الشك في نفس أحد، أرسلت ولدي إلي المدرسة، بينما ذهب زوجي إلي الحلاق. انشغلت في تحضير طعام الغداء. وإذ بزوجي يعود إلي البيت، عاد يحمل هذه الكلمات علي شفاهه: ”اشتعل حريق في المحطة" وأمر بحظر الراديو. نسيت أن أخبركم أننا نعيش في مدينة “بريبيات”، ليس ببعيد عن المفاعل.
لم يزل ماثلا أمام عيني حتي هذه اللحظة وهج شديد قرمزي اللون، سطع المفاعل بضوء بدا كأنه خرج من داخله. لون غريب، كان حريقا استثنائيا، لهيبا بدا جميلا، ولو تجنبنا التفكير في كارثية الحدث، فإن المشهد بدا رائعا. لم أر مثله حتي علي شاشات السينما، لا وجه للمقارنة. احتشد الجميع في شرفات المنازل، ومن عدم شرفة في منزله، ذهب ليشاهد من شرفات الأصدقاء والمعارف، شقتنا في الطابق التاسع، منحتنا رؤية رائعة.
بلغت المسافة بيينا وبين المفاعل ثلاثة كيلومترات، حملنا الأطفال علي أيدينا: ألق نظرة تذكر هاهم أناس، عملوا في المفاعل، مهندسون، عمال، كما كان هناك مدرسون لمادة الفيزياء، وقفوا في الغبار الأسود .. تحدثوا .. استنشقوا .. سيطر عليهم الفضول. قطع العديد من الناس عشرات الكيلومترات في السيارات، علي الدراجات، لكي يشاهدوا ماذا يجري، لم نكن نعلم، أن الموت قد يكون بهذا الجمال. لم أقل إنه عديم الرائحة. ليست بأي حال رائحة الربيع ولا رائحة الخريف، إنما كانت رائحة مغايرة تماما، ولم تكن حتي رائحة الأرض.