ظل يغني حتى الثمانين.. «المسلوب» حارس الأغنية المصرية وأول من ألف النغمة العسكرية
هناك دائمًا رواد مجهولين غيروا مسار التاريخ ومع ذلك ظلت أسماؤهم مجهولة، ولما كانت مصر منارة لكل شعوب المنطقة فقد كانت تزخر بالعديد من الشخصيات التي أثرت التاريخ العربي بما قدمته من أعمال يشهد لها التاريخ.
ومن نتحدث عنه هو واحد من الشخصيات التي خلد التاريخ ذكراهم لتحيى طويًلا بعد رحيلهم، هو الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، المنشد الشهير والملحن المصري الكبير، وشيخ مشايخ منشدي الأذكار الصوفية، وهبه الله مزية الإتقان في إلقاء الموشحات والألحان.
أطلق على المسلوب بأنه رائد الأغنية المصرية، وقيل أنه أول من ألف المارش العسكري أو الموسيقى العسكرية، عُرف بأنه شخصية تتمتع بالبساطة والمرح، وكان شيخاً ملتحياً، يتميز بسرعة البديهة.
مولده ونشأته
ابن محافظة قنا، منحه الله عمرًا طويلًا، فقد تعددت الروايات حول ولادته فقيل ولد قبيل الحملة الفرنسية على مصر، وقيل أنه ولد آواخر عهد المماليك وبالتحديد في إمارة المملوك البرديسي بك، في 1 يناير عام 1793 في القرن الثامن عشر أي قبل مولد الفنان الراحل عبده الحامولى بحوالي 40 سنة، ورحل عن عالمنا في 13 يوليو عام 1928، في القرن العشرين أي بعد رحيل سيد درويش بخمس سنوات، وقيل أنه شهد القرن التاسع عشر بأكمله أي ما يقرب من 140 سنة.
سبب تسميته بـ عبد الرحيم
قيل أسماه والده عبد الرحيم تبركًا بالعالم الديني الراحل عبد الرحيم القناوي، ولم يعرف السبب بتسميته بالمسلوب، ودرس في بداية حياته في الكتاتيب ليتعلم أصول تجويد القرآن الكريم، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إنما تشربت روحه التي صعنت تذوق فنون الموسيقى والغناء حب المدائح النبوية والإنشاد الديني حيث لامست تلك الفنون أسماعه في موالد الأولياء الصالحين، التي تنتشر في الكثير من الأقاليم.
كيف تكونت شخصية عبد الرحيم الغنائية؟
تلقى الشيخ عبد الرحيم دروسه الأولى في الغناء والإنشاد من خلال مولد الشيخ عبد الرحيم القناوي الذي يكون في النصف الأول من شهر شعبان، حيث يعج بالكثير من المنشدين والمبتهلين من كل مكان ومن مختلف الألوان، ومن هناك تكونت زخيرته بالكثير من الأغنيات والألحان حتى كون 125 نغمة ولحن شرقي.
وعندما كون رصيد كبير من المدح والأناشيد، ألحقه والده بالأزهر للدراسة فيه، وعندما انتهى من دراسته، افتتح محل أسمال، إلا أنه كان يتابع ويطلع على مستجدات الأغنية المصرية، وكان في هذا التوقيت وتأثرها بألوان أخرى من الأغنيات اليونانية والتركية والأندلسية آنذاك.
الانطلاقة الفنية الحقيقية
ترجع بداية المسلوب الفنية إلى عصر الخديوي إسماعيل، فعندما بدأت نهضة الغناء في مصر، وأصبح كل موسيقي يبتكر ويضيف في الغناء، كانت الفرصة الأولى التي مكنت الناس من الإستماع لألحانه فعندما شارك المسلوب بحفل عرس أبناء الخديوي إسماعيل والذي استمر لأربعين ليلة متوالية وكان قائد الموسيقى العسكرية الأميرلاي محمد ذاكر بك قد دوّن الألحان التي قدمها المسلوب بهذه المناسبة لكي تعزفها فرقة موسيقى الحرس الخديوي آنذاك بحسب الروايات.
ووسط هذا الضجيج من الأغنيات، وخوفه من اندثار الأغنية المصرية أو تأثرها بالأغنيات الأخر، اتخذ خطوة جادة من أجل المحافظة على هوية الأغنية المصرية، قرر أن يؤسس مدرسة تعيد لها مجدها، وبالفعل أعد العدة لذلك بداية بالتفرغ للغناء الدنيوي دون أن يتخلى عن الإنشاد الديني.
وبعد تطوره الأغنية المصرية وإدخال أنماط جديدة من الألحان والغناء تنوعت ما بين فنون الدور والموشح والأغنية الخفيفة بالإضافة إلى الإنشاد الديني وغنى من ألحانه مطرب القرن التاسع عشر الشهير محمد سالم، حتى ذاع صيته واتسعت شهرته وأصبح الأستاذ الأول في عصر، مما جعل الكثيرين يطلقون عليه رائد عصر النهضة الموسيقية.
وظل المسلوب يغني حتى سن الثمانين، وقدم أكثر من مئة دور وأغنية، وغنى من ألحانه العديد من المطربين الذين عاصروه، وهناك الكثير من المطربين الذين تغنوا بألحانه دون الإشارة إليه مما أدى إلى ضياع حقوق الملكية الفكرية والإبداعية، حتى ظن البعض أن هذه الأغنيات يرجع أصلها إلى الأندلسية والتركية واليونانية.
وبعد دراسات كثيرة وقراءات في التاريخ ثبت من خلال البحث والتوثيق أنه رائد الأغنية المصرية الصميمة، ومؤسس مدرسة الموسيقى المصرية الحديثة، التى استطاعت أن توائم بين جماليات الإنشاد الديني والابتهالات والتواشيح وبين انطلاقة الغناء وحيويته وعذوبته، مستحدثة مجموعة من التجديدات في الأداء والموسيقي ك”الدور” مثلا بدلا من “الطقطوقة”.
أشهر الألحان
ومن الألحان التي اشتهر بها المسلوب ومازالت تنسب له حتى الآن أحد أشهر لحن أغنية "يا حليوة يا مسليني" التي أذيعت لأول مرة فى عام 1850، وتم تداولها حتى غناها عشرات المطربين، ويرجع عمرها إلى أكثر من 168 عامًا.
ومن أشهر أغانيه وألحانه أيضا: "العفو يا سيد الملاح، البدر لاح في سماه، في رياض الجلنار، أنعم وزار زاهي الجبين، أسيل خدك يتعاجب بخاله ويسحر العين ، جميل زمانك لك صفا" وغيرها.
تلاميذ عبد الرحيم المسلوب
بعد شهرته الواسعة التي بلغت عنان السماء، وتأسيسه لمدرسة الموسيقى الحديثة، تتلمذ على يديه الكثير من محبى الفنون بأنواعها آنذاك، الذين تأثروا به أمثال: عبده الحامولي، المطرب محمد عثمان، سلامة حجازي، إبراهيم القباني، داود حسني، أبو العلا محمد، سيد الصفتي، علي القصبجي، سيد درويش وغيرهم.