محمد رسول العلم 1
لقد حملت الرسالة المحمدية أطيافا شتي من نور العلم والمعرفة، حلّقت بالأمة الإسلامية في ميادين تعددت ما بين التربية وعلوم الدين واللغات والحكمة والعلوم التجريبية والاجتماعية والانسانية، وهذه هي معجزة النبي، صلي الله عليه وسلم، الحقيقية وليست أميته، فأمية النبي كانت وقتية قبل الرسالة وإلى مرحلة معينة من حياته، بعدها تعلم النبي، صلي الله عليه وسلم، القراءة والكتابة، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَتَبَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُوذَرٍّ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُوالْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَ.
إن الدفع بأمية النبي، صلي الله عليه وسلم، للتدليل على إعجاز رسالته هو أمر يعافه العقل، فهل يا تري كانت أمية النبي مؤثرة إلى هذه الدرجة في صد الاتهامات عنه أثناء حياته وبعد مماته؟! الاجابة: بالطبع لا.. فمسألة أمية النبي لم ترتقِ في أي مرحلة من مراحل الدعوة لتكون الاساس الذي يبني عليه حديثو العهد بالاسلام ثقتهم بالدين الجديد، وفي الوقت نفسه لتكون حائط الصد ضد هجمات العرب الجاهليين باقتباس نصوص القرآن من أهل الكتاب المنتشرين بمكة.
والسبب وببساطة أن الاقتباس لا يحتاج إلى لغة فيكفي الاستماع الشفهي ليحدث الاقتباس، خاصة أن ما حمله القصص القرآني من شخصيات ووقائع كان متداولا في مكة من خلال القصص الشعبي الذي كان يطلق في مسامر وأندية قريش للعظة والاعتبار والتسلية، والذي يمكن أن نطلق عليه أساطير الأولين، فالمجتمع الجاهلي كان على قدر كبير من الانفتاح واستخدام وسائل الاتصال التي توافرت له عبر التجارة، فالمجتمع الجاهلي- ونعني بالجاهلية هنا البعد عن معرفة الله ووحدانيته وليس غياب الأسس الحضارية والقيمية- قد شهد رحلات منتظمة في الشتاء إلى بلاد اليمن والصيف إلى الشام.
وهو ما مثّل فرصة كبيرة لاكتساب المعارف والعلوم والاطلاع على الحضارات المتاخمة وآثارها، ومنها القصص الديني، وممن نسميهم أعمدة أدب الرحلة بصورة بسيطة، وتناسب هذه العصور، كان النضر بن الحارث، وهو أول من نقل إلى مكة العزف على العود ممزوجا بألحان الفرس، متزودا في رحلاته إلى الشام والعراق وفارس بالعديد من القصص، مثل كليلة ودمنة، وأحاديث رستم واسبنديار، والعديد من الأساطير التي تحفل بها حضارات هذه البلدان.
ولم يكن القصص الديني ببعيد عن هذه الأساطير، فقد كانت قصة كطوفان نوح، عليه السلام، حاضرة وبقوة في أساطير مثل جلجامش، في شخص الرجل الطيب أوتنابيشتيم الذي أمرته الآلهة بأن يبني سفينة يحمل عليها بذور كل شيء حي، وفي قصة بيروسوس حيث الملك (أكسيسو ثووس) الذي يري الطوفان في منامه فيبني سفينة، إضافة لقصص الخلق السامري والبابلي والكنعاني، وهي نصوص وإن كانت مكتشفة حديثا إلا أنه من غير المستبعد أن تكون متناقلة كقصص شعبي على ألسنة الناس في هذه العهود.
وقد رسخت لديهم وجود خالق لهذه السماوات والأرض، قال تعالي: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) سورة لقمان، الآية 25.. كما كانت إشارة النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية، إلى النبي سليمان في إحدى قصائده: "إلاّ سُليمانَ إذ قالَ الإلـهُ لـــهُ قـمْ فــي البريَّة فــاحْــدُدْهــا عنِ الفَنَـدِ وخيِّسِ الجنَّ إنّي قد أَذِنْتُ لهمْ يَبْنون تَــدمـر بـالـصُّـفَّــاحِ والــعَـــمَـــدِ"، مؤشرا هاما على انتشار هذه الاخبار في الجاهلية.
كما عرفت قريش العديد من القيم، مثل نصرة الضعيف، ويظهر هذا بوضوح في واقعة "حلف الفضول"، حيث كانت شكوى أحد التجار ضد العاص بن وائل، وقد كان على قدر كبير من السطوة والمنعة، ولكن ذلك لم يمنع سادة قريش من الاجتماع في دار ابن جدعان والانتصار لحق التاجر ورده إليه وقد حضره النبي، وقال عنه لاحقًا: "لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".. كما كان للمجتمع العربي دار الندوة. والتي كانت بمثابة مجلسا تشريعيا وتنفيذيا في آن واحد، حيث كان التشاور واتخاذ القرار وعقد ألوية الحرب تتم هناك.
إضافة إلى معرفتهم بما يمكن تسميته الابتعاث الخارجي لتحصيل المعارف، والذي مثله طبيب العرب الشهير الحارث بن كلدة الثقفي، الذي تعلم الطب في فارس وله محاورة شهيرة مع كسري تمثل المكانة العليا التي وصل إليها، وقد كان يداوي الصحابة فيما بعد ومنهم سعد بن أبي وقاص.. كما شهد المجتمع العربي الجاهلي طفرة أدبية شعرية جسدها شعراء المعلقات، وكذك المكانة التي ارتقاها بعض شعراء العرب، من أمثال النابغة الذبياني في بلاط النعمان بن المنذر، ملك الحيرة.
ومن هذه الأمة كان اصطفاء الله، عز وجل، للمصطفى، صلى الله عليه وسلم، ليكون حاملا لرسالته الخاتمة قال تعالي: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُوْلًا مِنْهم" سورة الجمعة، الآية 2.. وقد كان تفسير القرطبي الأسبق في تعريف "الأمي" بنسبة النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى مكة أم القرى.
إن إشكالية قريش مع النبي لم تكن أبدا في هذا القصص القرآني الذي لم يكن مفاجئا لهم في شخوصه أو محتواه من حيث الأطر الشكلية العامة، وبالتالي لم تكن محاولة التيقن من أميته أو الوصول إلى أشخاص على صلة بالنبي من أحبار أو رهبان أخبروه بهذه القصص كان شغلهم الشاغل، وإنما كانت مشكلتهم مع العلم.. أجل العلم الذي استخدمه القرآن في التدليل علي التوحيد، قال تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" سورة الأنبياء، الآية 22.. إنها معركة العلم والتنوير في كل العصور في تحرير العقل ليصبح مهيمنا وموجها للبشرية في معركتها الأزلية مع الجمود، وأن تتخلص البشرية من ربقة عبادة العباد، والتوجه إلى إله واحد يحيطهم بتعاليمه، وينزع عنهم صفات العنصرية والتعصب القبلي البغيض.