الإمام الطيب ووثائق الأزهر.. انحياز للوطن والمواطنة ودفاع عن القدس وترسيخ للأخوة الإنسانية
تشكل "وثائق الأزهر"، التي توالى صدورها منذ وصول فضيلة الإمام الأكبر، أ.د/أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إلى مشيخة الأزهر في التاسع عشر من مارس 2010، أحد أبرز ملامح التجديد الفكري التي عرفها الأزهر في الأعوام التسعة الماضية والتي عكست ترسخ دوره الوطني ومكانته العالمية، وبرهنت على انحيازه لقيم الحوار والتعايش، وتصديه لمحاولة بعض الجماعات المتطرفة التي تريد تشويه صورة الإسلام وشريعته السمحة، حيث أبانت تلك الوثائق، على اختلاف موضوعاتها وسياقاتها، عن الوجه الحقيقي للإسلام، وعكست المنهج الأزهري الوسطي، التي يوازن بين الحفاظ على التراث وتجلية معانيه الحقيقية، وبين مواكبة المستجدات وتلبية أشواق المسلمين إلى رؤىً شرعيةٍ تجديدية، تجيب على أسئلتهم وشواغلهم.
وتجسد هذه الوثائق نهج الإمام الطيب في فتح أبواب الحوار مع كل الأطياف والتوجهات الوطنية والفكرية في الداخل، وتشييد جسور التواصل مع مختلف المؤسسات الدينية عبر العالم، وهو ما نتج عنه سلسلة من الوثائق التاريخية، التي تبلور موقف الأزهر تجاه عدة قضايا وملفات محورية، ومن أبرز هذه الوثائق:-
• وثيقة مستقبل مصر: صدرت هذه الوثيقة في 17 رجب 1432هـ الموافق 19 يونيو 2011م، وهي تؤكد على دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، ووضع الأطر الناظمة لتكوين دولة ديمقراطية حديثة من خلال الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، واحترام الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وتأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، واعتبار التعليم والبحث العلمي قاطرة التقدم الحضاري في مصر، بالإضافة إلى إعادة بناء علاقات مصر بمحيطها العربي والإسلامي والإفريقي والعالمي، ومناصرة الحق الفلسطيني، وتأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر وعودة هيئة كبار العلماء.
• "بيان إرادة الشعوب العربية": إيمانًا من الأزهر الشريف بحق الشعوب العربية في العيش بسلام وحرمة الدماء، أصدر الإمام الأكبر هذه الوثيقة في 3 من ذي الحجة سنة 1432هـ الموافق 30 أكتوبر 2011م. وجاءت الوثيقة في ستةِ مبادئَ كبرى، وأعلنت المناصرةَ التّامة لإرادة الشعوب العربية، واعتبرت أن المعارضة الشعبية والاحتجاج السلمي حق أصيل للشعوب، ونفت صفة "البغي" عن المعارضينَ الوطنيينَ "السلميين"، وعارضت القهرَ والفسادَ والظلمَ.
• "وثيقة القدس": صدرت هذه الوثيقة، في نوفمبر 2011م، في إطار الاهتمام البالغ الذي يوليه الأزهر الشريف بالقضية الفلسطينية وتزامنًا مع تصاعد وتيرة التهويد الصهيوني لمدينة القدس الشريف، وهي تؤكد على عروبة القدس التي تضرب في أعماق التاريخ لأكثر من ستين قرنًا، وساقت الوثيقة الأحداث التاريخية التي تبرهن على عروبة مدينة القدس، كما كررت رفض الأزهر الشريف والمسلمين كافة مشروعات الكيان الصهيوني التي تهدف إلى تهويد القدس وطمس هويتها العربية.
• "وثيقة منظومة الحريات الأساسية": أصدر الأزهر الشريف تلك الوثيقة، في يناير2012م، لتكون بمثابة نص مرجعي يسهم في حماية الحريات الأساسيٍة، إذ تضمنت التأصيل الشرعي والفلسفي والدستوري لحرية العقيدة، وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي، فضلًا عن حرية الإبداع الأدبي والفني.
• "وثيقة الأزهر لنبذ العنف": صدرت في 19 ربيع أول ســـنة 1434 ﻫ الموافـق 31 يناير سـنة 2013م، حرصًا من الأزهر الشريف على وأد أسباب الفرقة والانقسام بين أبناء الشعب المصري، وجاءت الوثيقة في عشرة بنود رئيسية، أكدت على حق الإنسان في الحياةِ، وشددت على حُرمَةِ الدِّماءِ والمُمتَلكاتِ الوَطَنيَّةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وواجبِ الدولةِ ومُؤسَّساتِها الأمنيَّةِ في حِمايةِ أمنِ المواطنينَ وسَلامتِهم وصِيانةِ حُقوقِهم وحُريَّاتِهم الدُّستوريَّةِ، والحِفاظِ على المُمتَلكاتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، ونبذِ العُنفِ بكلِّ صُوَرِه وأشكالِه والتحريض عليه، أو تسويغِه أو تبريرِه، أو التَّرويجِ له، أو الدِّفاعِ عنه.
• "إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك": انبثق هذا الإعلان التاريخي عن المؤتمر الدولي الذي نظمه الأزهر تحت عنوان "الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل"، في مارس 2017م. وأكد الإعلان على ضرورة تبني مصطلح "المواطنة" بدلًا من مصطلح "الأقليات" وما يحمله في طياته من معاني التمييز والانفصال، وأدان الإعلان كافة التصرفات التي تقوم على التمييز وتتعارض مع مبدأ المواطنة والمساواة، كما أدان كل ما يتعرض له أبناء الديانات والثقافات من ضغوطٍ وتخويف وتهجير، وشدد على تبرئة الأديان كافة من الإرهاب بشتى صوره.
• "إعلان الأزهر العالمي لنصرة القدس": صدر هذا الإعلان في ختام مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس، يناير 2018، وقد شدد على أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطين المستقلة، ويجب العمل الجاد على الاعتراف الدولي بها، وأن عروبة القدس أمر لا يقبل العبث أو التغيير، مؤكدًا على الرفض القاطع لقرارات الإدارة الأمريكية بشأن اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني؛ لكونها لا تعدو أن تكون حبرًا على ورق، كما شدد الإعلان على مؤازرة صمود الشعب الفلسطيني الباسل ودعم انتفاضته في مواجهة القرارات المتغطرسة بحق القضية الفلسطينية ومدينة القدس والمسجد الأقصى.
* "وثيقة الأخوة الإنسانية": صدرت هذه الوثيقة باسم الأزهر الشريف وحاضرة الفاتيكان، حيث وقَّعَها الإمام الطيب والبابا فرنسيس في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، في الرابع من فبراير 2019م، لتشكِّل أحدَ أهمِّ الوثائق في تاريخ العَلاقة بين الإسلام والمسيحية، والوثيقة الأهم في تاريخ علاقة الأزهر والفاتيكان، وهي نتاج جهد مشترك وعمل مخلص استمر أكثر من عام ونصف العام بين الإمام الطيب والبابا فرنسيس، حيث ترسُم للبشرية خارطةَ طريقٍ نحو عالَم مليء بالتسامح والمحبة والإخاء، بعيدًا عن الحروب والنزعات والكراهية البغيضة وأعمال العنف والإرهاب المروعة.
وتنص الوثيقة على تبني "الأزهر الشريف - ومِن حَوْلِه المُسلِمُونَ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها - والكنيسة الكاثوليكيَّة - ومِن حولِها الكاثوليك من الشَّرقِ والغَرْبِ - ثقافةِ الحوارِ دَرْبًا، والتعاوُنِ المُشتركِ سبيلًا، والتعارُفِ المُتَبادَلِ نَهْجًا وطَرِيقًا"، وعلى كون الوثيقة "رمزًا للعِناقِ بين الشَّرْقِ والغَرْبِ، والشمالِ والجنوبِ، وبين كُلِّ مَن يُؤمِنُ بأنَّ الله خَلَقَنا لنَتعارَفَ ونَتعاوَنَ ونَتَعايَشَ كإخوةٍ مُتَحابِّين"، كما تدعو الوثيقة قادة العالم للعمَلِ "جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ".