الإسلام وأصول الحكم.. أسرار لم تكشف من قبل عن المؤلف الحقيقي للكتاب؟
تعتبر قضية الخلافة من أبرز المعارك الفكرية التي وقعت في القرن العشرين، خاصة بعد إعلان سقوط الخلافة العثمانية عام 1923، ومازال صداها مشتعلا إلى اليوم، وتدور رحا الخلاف حول ركيزة أساسية وهي: هل الخلافة قضية سياسية دنيوية، أم قضية عقدية ملازمة للدين لا تنفك عنه وهو الأمر الذي دعا إلى اشتعال الخلاف حول هذه المسألة، وكان أبرز ما أنتجه هذا الصراع، قضية كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ الأزهري علي عبدالرازق الأمر الذي فتح النار عليه من كل الجبهات، خاصة أن الملك فؤاد كانت تراوده في ذلك الحين أحلام الخلافة وأن يصير خليفة للمسلمين الأمر الذي انتقل بالخلاف حول كتاب علي عبدالرازق من منطقة الفكر إلى منطقة السياسة فصار الهجوم عليه من أطراف متعددة.
أبرز ما تعرض له الكتاب هو نسبته إلى مؤلفه الشيخ الأزهري القاضي الشرعي بمحكمة المنصورة، وبغض النظر عن محتوى الكتاب فقد أثارت إشكالية هوية مؤلفه معركة جانبية لا تقل إثارة عما شغله محتوى الكتاب نفسه من مساحة جدلية، ففريق حاول نسبته للأتراك وعتبروا أنه مأخوذ من الرسالة التي أصدرها مجلس الأمة التركي بعنوان "الخلافة وسلطة الأمة" وأنه مأخوذ عن هذه الرسالة التي نشرها المجلس باللغتين العربية والتركية عام 1924، أي قبل عام واحد من إصدار كتاب علي عبدالرازق وفريق آخر زعم أنه مأخوذ من المستشرقين وأن نصيب علي عبدالرازق منه ليس إلا مجرد وضع اسمه فقط عليه، وفريق ثالث رأي أن الكتاب من تأليف طه حسين وليس من تأليف علي عبدالرازق الذي تحمل عنه عبء الهجوم.. وحول هذه المعركة تدور السطور التالية:
أصول غربية من أفكار المستشرقين
من أبرز الذين عارضوا كتاب علي عبد الرازق الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي
الديار المصرية الأسبق الذي وضع مؤلفا للرد عليه بعنوان "حقيقة الإسلام وأصول
الحكم"، وكذلك الشيخ ضياء الدين الريس في كتابه النظريات السياسية
الإسلامية" وكذلك كتابه "الإسلام والخلافة في العصر الحديث"، وتبنى
الشيخان الموقف القائل بأن الكتاب ترجمة لافكار المستشرقين.
واتهم الشيخ المطيعي علي عبدالرازق بأنه يردد كلام المستشرقين ويضرب عرض
الحائط بإجماع المسلمين في قضية الخلافة فيقول:
"قال المؤلف- يقصد عبدالرازق-: وإذا أردت مزيدا في هذا البحث، فارجع
إلى كتاب الخلافة للعلامة السير تومس أرنولد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان
مقنع".., اقول إن مثل هذا القول من مسلم عثرة لا تقال وكلمة كبرت أن تقال
خصوصا إذا كانت ممن يدعي أنه عالم متخرج في الأزهر وقاض شرعي فإن إجماع المسلمين
على أن غير المسلم لا يقبل قوله فيما يتعلق بدين الإسلام خصوصا ما يتعلق بالخلافة،
فإن الخلافة الإسلامية هي الشبح المخيف الذي لو رآه اشجع رجل في أوروبا ولو في
منامه لقام فزعا مذعورا... وأيا ما كان فما بال هذا المؤلف يعدل عن قول أئمة
المسلمين ولا يكتفي بإجماع الصحابة وإجماع المجتهدين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا
بدعوى أن إجماعهم ليس له مستند ثم يأخذ بقول توماس وهو خبر آحاد من غير مستند أيضا
من الكتاب أو السنة ولو فرضنا وكان هذا
القول الذي صدر من توماس وقع من مسلم في مقابلة إجماع من ذكر لم يقبل فكيف بذلك
القول وهو صادر من رجل غير مسلم وليس بعدل عند المسلمين وقد وقع في مقابلة ذلك
الإجماع"(1).
ونقل الشيخ ضياء الدين الريس عن الشيخ المطيعي قوله:
"علمنا من كثير ممن يترددون على المؤلف- علي عبدالرازق- أن الكتاب ليس
له فيه إلا وضع اسمه عليه فقط، فهو منسوب إليه فقط، ليجعله واضعوه من غير المسلمين
ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزي والعار إلى يوم القيامة"(2)
ويعلق الريس على هذه الفقرة بقوله: فهذا خبر هام يمثل مفاجأة، ويروي فضيلته
وهو عالم فاضل لا يتوقع منه الكذب، ونحن لا نقبله كحقيقة نجزم بها، ولكن لا يجوز
أيضا أن نهمله، وإنما ننظر إليه- كما قلنا- كخيط نمسك به ونسير على توجيهه، لعله
يصل بنا إلى الحقيقة وإذن يجب أن نبحث عما إذا كانت هناك قرائن تؤيده أو أنه يتفق
مع سائر الحقائق".(3)
وأضاف: "واستظهر له بالعديد من القرائن حيث توصل إلى أن مؤلف الكتاب
أحد اثنين إما المستشرق مرجليوث اليهودي الذي كان أستاذا للغة العربية في
بريطانيا، وتدل كتاباته على أنه كان صهوينيا معاديا للإسلام والمسلمين أو أنه
توماس أرنولد المستشرق المعرف، وقد ذهب علي عبدالرازق إلى بريطانيا وبقي فيها
عامين" (4).
الكتاب لطه حسين وليس لعبدالرازق
ومن القول بأن الكتاب من بنات أفكار المستشرقين إلى القول بأن علي عبد
الرازق تراجع عن الأفكار التي طرحها في الكتاب، ومنهم من رغب في الدفاع عنه وحاول
الاستدلال على أنه لم يكن مقتنعا بما في الكتاب لأنه ليس من بنات أفكاره ومن هؤلاء
الدكتور محمد عمارة الذي ألح على ذلك كثيرا وذهب إلى نسبة الكتاب للدكتور طه حسين،
يقول عمارة:
"أما
الشهادة الثالثة فإنها كانت المفاجأة الكبرى، التي فتحت قضية كتاب الإسلام وأصول
الحكم بابا لا أظنه سيغلق في عهد قريب.
فلقد
أدلى الشيخ أحمد حسن مسلم- وهو من علماء الأزهر وعضو لجنة الفتوى فيه بشهادة قال
فيها:
إنه
فيما بين عامى 1942 و1948 كان يعمل واعظا بصعيد مصر فى مركز بنى مزار، حيث بلدة أبوجرج
بلدة الشيخ على عبدالرازق..... وهناك التقى بالشيخ على. وبعد صلاة المغرب، لاحظ الشيخ
مسلم آيات الخشوع على الشيخ على، حتى أنه «تنفل» بعد المغرب بست ركعات- والعادة أداء
السنة بركعتين فقط- الأمر الذى جعل الشيخ مسلم يسأل الشيخ عبدالرازق:
كيف
يكون حرصك على أداء السنة بهذه الطريقة، وأنت مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وهو
كتاب عليه كثير من المآخذ التى تقدح فى العقيدة؟!
فسكت
الشيخ عبدالرازق قليلا، وقال:
وهل
أنا الذى ألفت هذا الكتاب؟! إنما ألفه الدكتور طه حسين!
فسألته:
ولماذا
نسبه إليك؟!
فقال
الشيخ على عبدالرازق: لقد فاجأنى بالكتاب وعليه اسمى. ولما سألته عن سبب ذلك، أجاب
طه حسين، مازحا:
لكى
تكون لك شهرة عالمية، وذلك بعد أن تنقل عنك وسائل الإعلام الأجنبية والعالمية، وتتحدث
عن هذا الكتاب وما به من فكر"(5).
أصول تركية
وكما ذهب السابقون
إلى اعتبار أن الكتاب يعود إلى أصول غربية أو أنه من تأليف الدكتور طه حسين فهناك
اتجاه ثالث باعتبار أن الكتاب ترجمة لكتاب أو بيان مجلس الأمة التركي الصادر بعد سقوط الخلافة
بعام واحد بعنوان "الخلافة وسلطة الأمة" في عام 1924، وأبرز الذين
اشاروا إلى أن الكتاب مستمد منه البيان التركي: الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر
الأسبق وأنور الجندي اللذين اكدا أن هناك رابطا بين الكتاب وبين بيان مجلس الامة
التركي خاصة أنه أصدره بعد سقوط الخلافة العثمانية من قبل (كمال أتاتورك)
عام 1924م.
رؤية أخرى
لم تقتصر معركة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" على حياة عبد الرازق
فقط ولكن امتد تأثيرها إلى اليوم بين مؤيد لفكرته ومنكر لها ومازال الجدل دائرا،
ومن أبرز الكتابات التي تقف في صف الشيخ علي عبدالرازق وكتابه، المصنف الذي قدم له
الدكتور نصر حامد أبو زيد للترجمة العربية لكتاب الإسلام وسلطة الأمة ترجمة
عبدالغني سني بك.
وبدأ نصر حامد أبو زيد مهاجمة كل الفرضيات السابقة، مستهلا بمهاجمة الدكتور
محمد عمارة وقال :
" بل إن واحدا من أهم ممثلي تيار الاعتدال المتحدثين باسم "الحل
الإسلامي" وهو الدكتور محمد عمارة له موقفان متعارضان من الكتاب، وموقفان من
قضية الخلافة، في بداية السبعينات كان خطاب عمارة ينطلق من أهم المرتكزات
العقلانية المستنيرة في التراث العربي الإسلامي.. وأسدى المكتبة الإسلامية خدمة
جليلة بنشر الأعمال الكاملة لرواد النهضة والتنوير والتحديث من رفاعة الطهطاوي
ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني حتى علي عبدالرازق قام بنشر كتاب "الإسلام
وأصول الحكم" أولا في مجلة الطليعة القاهرية- اليسارية- عام 1971" (6).
ونقل احتفاء عمارة بالكتاب الذي قال الأخير إن هدفه:
" أن نصل الحاضر الذي نعيشه والمستقبل المأمول بأكثر هذه الصفات
إشراقا وأعظمها غنى" (7).
ونقل عنه أيضا قوله:
"أن هذا الكتاب.. "قد كان شديد الفعالية وأدى دوره كاملا كما كان
صاحبه حاد البصيرة في رؤية اتجاه حركة التطور والتاريخ، تلك الحركة التي جاءت
مصداقا لما أراد، رغم ما وجه إليه ووجه به من اتهامات وعقوبات" (التأكيد
لعمارة) (8).
ويشير نصر حامد أبو زيد إلى أن الدكتور عمارة نشر " في سبع مقالات
نشرتها جريدة الشعب- لسان حال حزب العمل الإسلامي- على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع
بدءا من 11/1م1994 إلى 1/2/1994 وهي مقالات سبق نشرها في جريدة الحياة السعودية
تصدى عمارة لتلويث كتاب الإسلام وأصول الحكم بطريقة غير مسبوقة ولا مألوفة في
التقاليد العلمية الرصينة"(9).
ويركز نصر حامد أبو زيد على أن اعتبار كتاب الإسلام وأصول الحكم ترجمة
لآراء المستشرقين هي أولى خطوات تلويث الكتاب وصاحبه "من منظور محمد عمارة
1994 وتيار الإسلام السياسي بالطبع- وهي تعتمد على إخراج الكتاب من سياقه الأصلي
الذي شغل عمارة بتحليله عام 1972م وزرعه في سياق الصراع الإسلامي العلماني، سواء
بين الإسلاميين ومعارضيهم من أهل الإسلام أو بين الإسلام والغرب كما يحلو
للإسلاميين أن يقولوا"(10).
ثم يوضح ابو زيد أن عمارة بهذه المقالات " يتبرأ عمارة 1994 من عمارة
1972 مستخدما كتاب "الإسلام وأصول الحكم" أداة لإعلان هذا
التبرؤ"(11).
نفي تبرؤ علي عبدالرازق من الكتاب
ويقول أبو زيد:
"الخطوة الثانية في مشروع عمارة 1994 لتلويث الكتاب وصاحبه هي الحرص
على إثبات أن علي عبدالرازق تراجع عن آرائه في الكتاب ومنذ فترة مبكرة لا تكاد
تتجاوز عشرين يوما بعد صدور حكم هيئة كبار العلماء عليه"(12).
نفي علاقة طه حسين بالكتاب
ويعتبر أبو زيد أن فرضية وجود علاقة بين الكتاب وطه حسين من الافتراءات على
المؤلف فيقول:
"لكن ما هو السر الذي يكشف عنه عمارة 1994 وراء هذا الإصرار على عدم
نشر الكتاب مرة أخرى؟ بطريقة أشبه بطريقة السرد في القصص البوليسية يلجأ عمارة إلى
الكشف عن السر خطوة خطوة جاعلا قارئه يمسك أنفاسه، إنه السر وراء ذلك كله أن
الفكرة المحورية في الكتاب وهي "الإسلام دين لا دولة" ليست فكرة علي
عبدالرازق، بل هي فكرة طه حسين ألقاها- بطريقة شيطانية ماكرة- في الكتاب وتحمل
مسئوليتها علي عبدالرازق"(13).
ويرد على ذلك بقوله: "لم يتساءل عمارة مثلا: لماذا لم ينسب طه حسين الكتاب لنفسه، فينال هو
الشهرة والمجد، خاصة وأن أزمة كتابه "في الشعر الجاهلي" كانت في علم
الغبيب ولم يكن طه حسين قد نال بعد شهرة أو مجدا، ولم يتساءل كذلك عن السر وراء
تحمل علي عبدالرازق ما تحمله من تبعات وما تعرض له من مخاطر طوال هذه السنوات حتى
فقد مكانته ولقبه العلمي ووظيفته، دون أن يتبرأ من الكتاب في محاكمته أمام هيئة
كبار العلماء ويعلن اسم مؤلفه الحقيقي"(14).
لا علاقة له بتركيا وأتاتورك
ثم يحاول أبو زيد إنكار أن يكون علي عبد الرازق متأثرا بكتابه بإعلان
أتاتورك سقوط الخلافة العثمانية بما أورده في نهاية كتاب "الإسلام وأصول
الحكم" فيقول:
"ومن الضروري هنا الإشارة إلى
الخاتمة التي ألحقها المؤلف بالكتاب، بعد أن صدر قرار إلغاء الخلافة
والكتاب ماثل للطبع، ذلك أن هذه الخاتمة كاشفة عن السياق الذي صدر فيه كتابنا هذا،
سياق وقوف المصريين إلى جانب الحركة الكمالية قبل قرارهم الأخير، يقول المؤلف
مشيرا إلى المصريين "وقد أردت أن أبين لهم الحق قبل هذا بسنة ونصف سنة،
فأمطروا علي الشتم واللعن، وكررت النذير بعد سنة فكرروا النكير وأصروا على ضلالهم
وتحبيذ الضلال الكمالي إلى أن اعترفوا بالحق وعنفوا الحكومة التركية حين لا ينفع
الاعتراف والتعنيف، فقد سبق السيف العذل"(15).
هوامش:
(1)حقيقة الإسلام وأصول الحكم، محمد بخيت المطيعي، ص 43.
(2) الإسلام والخلافة في العصر الحديث، ضياء الدين الريس، ص174، وانظر
أيضا: حقيقة الإسلام وأصول الحكم، للمطيعي، ص 237.
(3) الإسلام والخلافة في العصر الحديث، ضياء الدين الريس، ص174
(4)الإسلام والخلافة في العصر الحديث، ضياء الدين الريس، ص 211.
(5)الإسلام
بين التنوير والتزوير، محمد عمارة، ص 73
(6) الإسلام وسلطة الأمة، تقديم نصر حامد أبو زيد، ص11.
(7)السابق، ص12.
(8)السابق، 12- 13.
(9) الإسلام وسلطة الأمة، تقديم نصر حامد أبو زيد ، ص14
(10)السابق، ص15.
(11) السابق
(12) السابق، ص16.
(13)السابق: 16.
(14)السابق، 24.
(15) الإسلام وسلطة الأمة، تقديم نصر حامد أبو زيد، ص 42.