نساء العامة بين تشدد الفقهاء ونزوات الجسد..دراسة تاريخية تثير الجدل
حصلت الباحثة الشابة إيمان صلاح عطاطة مؤخرًا على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، من كلية الآداب جامعة طنطا، في موضوع «دور نساء العامة في مصر خلال العصر المملوكي»، والتي تدرس فيها تاريخ النساء المصريات وعلاقتهن بالتقاليد الشرقية الإسلامية، لا سيما ما يتعلق بالحياة العائلية والمنزلية والاجتماعية، مما يبرز دور النساء المصريات المهمشات الفقيرات في المدن والقري والنجوع.
هذه الدراسة أثارت جدلًا واسعًا في المناقشة حول موقف نساء العامة من القضايا الاجتماعية والفكرية والأخلاقية والتي اعتمدت فيها الباحثة علي الكثير من المصادر التاريخية، فقد اُتهمت بعض نساء العوام ومنهن نساء المحلة والإسكندرية والأرياف بتعدد النزوات والانحرافات، وعقدت مقارنة بينهن وبين نساء مناطق أخري في مصر مما يجعلها من البداية رسالة في غاية الأهمية لما تحتويه من مسائل خلافية جدلية.
فتاريخ المرأة في هذا العصر كان مملوءًا بالزخم والحيوية والحراك لذلك جاءت دراسة الباحثة أيضًا في الماجستير عن دور نساء البلاط فى مصر فى العصر المملوكي، لتعود فى رسالة الدكتوراه تستكمل هذا المشروع بفئة أكثر خصوصية، وبقضايا أكثر إشكالًا وهى فئة نساء العامة فى مصر خلال العصر المملوكي.
تخصيص دراسات وكتابات للكشف عن تاريخ النساء كان أمرًا مسكوتًا عنه في دراسات التاريخ، فتاريخ المرأة فى العصر المملوكي ليس تاريخًا واحدًا بل هو تواريخ متعددة، يتطلب أدوات متعددة، فتاريخ نساء البلاط يختلف عن تاريخ نساء الطبقة الوسطى، ويختلف بشدة أيضًا عن تاريخ نساء العوام المهمشين الفقراء أصحاب العوز الاقتصادي والضحالة المجتمعية، تلك الفئة التى هُمشت من قبل الباحثين كما هُمشت على صفحات المصادر التاريخية فلم يكتب عنها إلا النذر اليسير، متغافلين دور هذه الطبقة فى تفكيك الحدث التاريخي المتعلق بإشكاليات التأريخ للمرأة المهمشة فى العصر المملوكي.
الفقهاء وسياج السيطرة
على أية حال فإن الباحثة
فى هذه الدراسة حاولت ألا تقع فى هذا الفخ التقليدى الذى خلط بين الطبقات الثلاث، فسلطت
الضوء على الطبقة الفقيرة دون غيرها، وحاولت الكشف عن أدوارها السياسية وممارساتها
الاجتماعية، وذهنياتها، وثقافتها، وربما ستكشف الدراسة أن ثقافة نساء العامة الفكرية
والاجتماعية كانت فى جيتو معرفى منغلق تعلق بالخرافات والأوهام والعناية بالجسد والكرامات
إلى غير ذلك من المفاهيم المقتصرة على طبقة العامة، فضلاً عما قامت به الباحثة من محاولة
فهم جناية الفقهاء على نساء العامة بالعديد من الفتاوى التى ضربت سياجاً من السيطرة
والتضييق على رقاب نساء العامة فى العصر المملوكي، وهو الأمر الذى لم يجرؤ الفقهاء على
القيام به مع نساء البلاط فى نفس العصر.
فرغم الدراسات
السابقة عن المرأة خلال العصر المملوكي بشكل عام، ووجود كتابات متفرقة، إلا أنه وجد
الكثير من الثغرات حيث لم تتم معالجتها بشكل مفصل وتناول أحوال نساء العامة بشكل مجمل
ومختصر إلى حد كبير جدا. فمن اطلع على هذه الدراسات يدرك أن هذا الموضوع بحاجة إلى
دراسة مستقلة متعمقة تتطرق لكافة الجوانب عن أدوار نساء العامة لاكتمال الصورة عنهن.
فخلو المكتبة التاريخية من دراسة مستفيضة ومستقلة لدور نساء العامة بشرائحها في مصر في العصر المملوكي، حيث لم يحظَ تاريخ ودور نساء العامة بعناية الدراسات التاريخية التي اتجهت إلى دراسة تاريخ المرأة، مما جعل الباحثة الشابة تقدم على دراسة تاريخها وأدوارها السياسية والحضارية سعياً للوصول إلى بعض الحقائق التاريخية، إلى جانب الوقوف على مكانتها خلال تلك الفترة من التاريخ الإسلامي.
مكونات الرسالة
كانت الدراسة، حسبما وصفها بعض الأساتذة المحكمين بالموسوعة نظرًا لضخامتها وذكر كل شاردة وواردة تخص نساء العامة، اشتملت على مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة كانت على النحو التالي:
المقدمة وعرضت فيها التعريف بالموضوع وأهميته وأسباب اختيار الموضوع، والدراسات السابقة حوله، وأهم الصعوبات التي واجهت الباحثة أثناء البحث والكتابة، وكذلك المنهج المتبع في الدراسة، وعرض فصول الدراسة، مع دراسة لأهم المصادر التي اعتمدت عليها.
أوضحت مفهوم العامة في المصادر المملوكية المعاصرة ومفهومها في المراجع الحديثة وكذلك الحراك الاجتماعي. ثم ختمت التمهيد بعرض تطور دور نساء العامة في مصر نهاية العصر الأيوبي تمهيدًا للدور الذي لعبته في العصر المملوكي.
نساء العامة والمجال العام وانحرافاتهن
جاء الفصل الأول تحت عنوان "جدلية علاقة نساء العامة بالمجال العام"، وجاء في خمسة محاور رئيسية، الأول بعنوان "جغرافية تواجد نساء العامة"، وتتبعت فيه أماكن تواجد نساء العامة مثل الأحياء والحارات والأسواق والحمامات العامة والقرافة وكذلك المتنزهات.
ويأتي المحور الثاني بعنوان "الوضعية الاجتماعية لنساء العامة"، وعرضت أيضًا فيه الجواري وأوضحت كيفية وطرق الحصول عليهن، وأسعارهن، وكذلك الغرض من اقتنائهن ووضعهن في المجتمع في ذلك العصر، كما عرضت الحرف والمهن اللاتي مارستها نساء العامة وقسمتها إلى حرف تجارية وحرف غذائية وحرف جنائزية وحرف منزلية وكسائية وحرف الزينة والتجميل علاوة على مهن عامة أخرى، وأيضًا عرضت الألقاب والكنى التى نالتها نساء العامة من قبل ذويهن في ذلك العصر، وعرضت أيضًا وسائل النقل التي اقتصرت عليها نساء العامة في التنقل من مكان لآخر.
واستمراراً في ذلك، تطرقت في هذا الفصل إلى المحور الثالث وهو "الاحتفالات والترفيه في مجتمع نساء العامة" وعرضت فيه الاحتفالات التي شاركت بها نساء العامة مثل الاحتفالات الشرعية وغير الشرعية وأعياد أهل الذمة والاعياد الموروثة والاحتفالات السلطانية والرسمية وغيرهم، علاوة على وسائل التسلية والترفيه المتاحين لنساء العامة.
وجاء المحور الرابع "انحرافات نساء العامة" وتعرضت فيه لبعض الممارسات السلبية التي مارستها بعض نساء العامة مثل البغاء، الرقص والغناء، الزنا، السحاق، السرقة، القتل وكذلك شرب الخمر والحشيش.
وجاء في المحور الخامس والأخير من هذا الفصل بعنوان " أثر الأوضاع الاجتماعية على نساء العامة"، وعرضت فيه الباحثة ما تعرضت له نساء العامة في ظل مجتمع إقطاعي طبقي ونظرة المجتمع والدولة لهن.
حياة نساء العامة الخاصة
ويعد هذا الفصل " الفصل الثاني " من اجرء وأمتع الفصول والذي يستحق عن جدارة دراسة نقدية لما توصلت له الباحثة من نتائج وجاء عنوانه كتالي "الحياة الشخصية والعائلية لنساء العامة"، والتي جاء في مقدمته المحور الأول " عادات وطقوس الخطبة والزواج " وذلك عند المسلمات وأهل الذمة من نساء العامة وما شمله من الخطبة والمهر والعقد ويوم الحناء وليلة الزفاف، و جاء المبحث الثاني بعنوان "شوار نساء العامة"، وما تضمنه من الأثاث المنزلي، وأدوات المطبخ وأدوات الإنارة والإضاءة، و مفارش الأرض.
إلى جانب المبحث الثالث "الحياة الزوجية والأسرية في مجتمع نساء العامة" وتناول العلاقات الأسرية من العلاقة الزوجية التي أثارت جدل الفقهاء والحمل والإنجاب وبعض الاحتفالات العائلية، وتناول ظاهرة تعدد الزوجات والطلاق، وكذلك بيت الزوجية ودور الزوجة به علاوة على نظرة الأسرة والمجتمع للأنثى.
وجاء الفصل الثالث وعنوانه "ثقافة وفكر نساء العامة" والذي بدأ المبحث الأول: معتقدات نساء العامة" وقسمتها إلى أولا معتقدات شعبية، وشملت ممارسات الاستشفاء الشعبية وكذلك ولع أغلب نساء العامة بالتنجيم والغيبيات وإيمانهن بالأحلام والحسد والسحر والتفاؤل والتشاؤم. ثانيا: معتقدات دينية: وشملت العادات والطقوس الجنائزية وكذلك مظاهر تصوفهن، والتبرك بزيارة الأضرحة وأيضًا اعتقادهن في الأولياء والمشايخ.
وجاء المبحث الثاني "وازع نساء العامة الديني" وشمل المرجعية الدينية لنساء العامة في الأمور النسائية وخروج بعضهن للحج وبعض العوائد الدينية الممقوتة لديهن.
ويأتي المبحث الثالث "الجسد ومتعلقاته في ذهنية نساء العامة" وتناول مقاييس جمال نساء العامة ثم طرق وأساليب العناية بأجسادهن ثم ملابسهن من خارجية وداخلية وأغطية الرأس والحجب وملابس القدم علاوة على الحلي وما تزين به وتصفيف شعرهن وأدوات التجميل المستخدمة في ذلك.
والمبحث الرابع: "نساء العامة في كتب التراث الشعبي" وتناول صورة نساء العامة في العصر المملوكي من خلال الكتب والسير الشعبية.
الولايات علي النساء ( السيطرة وقبضة الفقهاء )
وجاء الفصل الرابع والأخير "نساء العامة بين الولاية السياسية والولاية الدينية" وجاء المحور الأول "قضايا نساء العامة بين القرار السياسي والفتوى الدينية" وقسمتها الباحثة أولا: قضايا اجتماعية: وشملت قضايا زي نساء العامة، قضايا المجون والطاعون، قضايا مواجهة البدع، وكذلك القضايا الخاصة بنساء العامة من أهل الذمة، وقضايا الجواري والإماء. ثانيا: قضايا الأحوال الشخصية وشمل قضايا ومراسيم الزواج والطلاق وقضايا المحلل وكذلك قضايا الخلع وقضايا الزنا والنسب وكذلك قضايا الخنثى. ثالثا: قضايا اقتصادية وشمل قضايا الإرث، وقضايا الغارمات وأيضًا قضايا استعباد وتسخير نساء العامة.
وتناول المبحث الثاني "مظاهر الدعم الاجتماعي لنساء العامة " من خلال توفير السكن لهن وتوزيع الصدقات عليهن وتوفير الماء والطعام والرعاية الصحية والنظر في شكواهن وأيضًا دفن الموتى منهن.
وتناول المبحث الثالث "نساء العامة في سياق السياسة"، وتناول الأدوار السياسية التي لعبتها نساء العامة في سياق السياسة منها عملها لصالح بعض السلطات المملوكية من خلال التجسس وجلب المعلومات، وأيضًا التستر على بعض السلاطين الهاربين، ومشاركتهن في بعض الهبات الشعبية وحركات التمرد من قبل الخارجين على الدولة المملوكية، وأخيرا مواجهتن ومواقفهن ضد الخطر الخارجي.
واختتمت الدراسة بخاتمة تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها، كما حرصت على تزويد الدراسة بملاحق، والصور والأشكال التي تخدم البحث وتوضح جوانبه، ثم ذيلت الدراسة بقائمة تضمنت الوثائق والمخطوطات والمصادر والمراجع، وكذلك المصادر والمراجع المعربة، وأيضًا الدوريات والرسائل الجامعية، والمراجع والدوريات الأجنبية التي تمت الاستعانة بها في إنجاز هذا البحث .
لجنة التحكيم وقدرات الباحثة
أشرف على الرسالة الراحل القدير أ.د محمد محمود النشار أستاذ تاريخ العصور الوسطى ورئيس قسم التاريخ ووكيل الكلية الاسبق بجامعة طنطا والذي أشاد قبل أيام من رحيله بمجهود الباحثة وقدرتها على اختيار وتوظيف المعلومة التاريخية في مكانها الصحيح وأنها تمتاز بعقلية تاريخية ممتازة ، كذلك أ.د أحمد عبد السلام ناصف رئيس قسم التاريخ الحالي بجامعة طنطا الذي وصف الباحثة بأنها مؤرخة واعدة وأن الرسالة من أفضل الرسائل العلمية ورغم ضخامة الرسالة الإ أنها حافظت على توزان فصول الرسالة ولابد لأي باحث وكاتب في التاريخ المملوكي من الاستعانة بها والرجوع إليها ،كما استعانت الباحثة بكم ضخم من الوثائق والمخطوطات والمصادر والمراجع وغيرهم ، والمؤرخ الشاب د محمد فياض مدرس التاريخ الإسلامي بكلية الآداب الذي تبنى الباحثة علميًا وفكريًا منذ سنوات عديدة فكانت له بصماته في الرسالة وفي فكر الباحثة الجريء.
وناقش الباحثة كلا من أ.د حمدي عبد المنعم حسين أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية والذي وصف الرسالة بالموسوعة وأشاد بمجهودها كثيرًا ووصف الباحثة بالجريئة نظرًا لما تناولته بالتفصيل من قضايا وإشكاليات جريئة وذو حساسية ، وأ.د جمال فاروق الوكيل أستاذ التاريخ العصور الوسطى المساعد بكلية الآداب جامعة قناة السويس الذي لم يترك شاردة أو واردة وناقشها وأشاد بمجهود الباحثة أيضَا وبأمانتها العلمية.
ربما صدقت مقولة " فتش عن المرأة" تلك المقولة التي كانت تُفسر دائماً بجانبها السلبى إلا أنها قد شكلت الوجدان الفكري للباحثة ففتشت "إيمان صلاح" عن المرأة على مدار رسالتيها فى الماجستير والدكتوراه، فتشت عن تاريخها وأفكارها وخصوصيتها وذهنياتها، ربما وقعت في التعميم أحيانًا بحسب رأي لجنة المناقشة عندما اتهمت بعض نساء العامة بالانحراف والتعددية الرجالية والنسائية أيضًا علي عكس ما يعتقد البعض بأن الرجال هم من يسعون بالتعدد لا النساء ، لكنها في مجمل رسالتها استطاعت تبين كيف كان للمرأة الأثر الأكبر فى الحراك التاريخى والصيرورة التاريخية، وكيف كانت الترس الأهم فى ديناميكية حركة المجتمع حتي الآن لأن التاريخ لا ينفصل عن الحاضر والمستقبل .