الشيخ طه البشرى يرد على "القرآني الأول": السنة من أصول الإسلام الثابتة (1)
القرآن يأمر باتباع سُنة الرسول بقوله تعالى «وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا»
إلى الدكتور النطاسى محمد توفيق أفندى صدقى: بعد أن نحمد الله إليك ونصلى على نبيه المجتبى ورسوله المصطفى وآله وصحبه: فلقد قرأنا مقالتك التى ذهبت فيها إلى أن الإسلام هو القرآن وحده، ونشدت من العلماء من يساجلك القول ويبادلك الحجة حتى ينتهى البحث إلى الحق الذى لا شبهة فيه، فإذا كنت مصيبًا تابعك وأيَّدك أو مخطئًا خالفك وأرشدك وإنى مناظِرك إن شاء الله تعالى بما لا ترى فيه حرجًا عليك من إلزامك بما قال زيد ورأى خالد، لكن بالكتاب نفسه أو بما رأيت فيه حجة لنفسك من غيره، ملتزمًا جهد المستطيع حد المناظرة الصحيحة حتى تبلغ منزلة الحق الذى ننشده جميعًا، فإما تهدّيًا إلى وفاق، وإلا فقد بلغ أحدنا من مناظره عذرًا، وكثيرًا ما ابتدأت المناظرة بالمهاترة، وانتهت بتلاحٍ، والحق ذاهب بينهما أدراج الرياح، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياك من هذا البلاء.
اعلم- وفقنا الله وإياك- أن أصول الإسلام أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب فلا تنازع فيه، بل نراك اتخذته وحده التكأة التى تستند فى أمر دينك إليها والحجة التى تنافح عن نفسك فيما ذهبت بها.
وأما السنة، فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهى منه تستمد، وعليه تستند، وعنه تصدر وإليه ترجع، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} «النحل: ٤٤»، وليس هناك من معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله، وتفسير مشكله، وغير ذلك من مسائل الدين التى لم يتناولها الكتاب بالنص، ولم ينبسط لها بالبيان ومثله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} «إبراهيم: ٤» وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} «البقرة: ١٥١». وقال: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَاب} «البقرة: ١٥١»، ولو كان المراد مجرد تبليغه لاكتفى بقوله: يتلو عليكم آياتنا، ولا يذهب عنك أن التعليم غير الأداء والتبليغ، ثم عطف عليه بالحكمة، وعطفها على الكتاب يقتضى أنها هنا شىء آخر، وليس هناك غير السنة، وقال تعالى فى مواضع كثيرة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} «النساء: ٥٩».
وطاعة الله لا شك بالرجوع إلى كتابه، وطاعة الرسول بالرجوع إلى سنته، ولو كان المراد الكتاب وحده لما كان ثمة داعٍ للتكرار، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِث..} «الأعراف: ١٥٧».. فنص فى هذه الآية الكريمة على الأخذ بما يحل الرسول والتحرج عما يحظر مطلقًا، وقد ثبت أن السنة أباحت كثيرًا وحظرت كثيرًا بدون أى نص أو إشارة خاصة من الكتاب ومع ذلك يجب الأخذ بكل ما جاءت به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} «الحشر:٧».
وقد صرح الكتاب العزيز بأن كل ما أوجب الرسول وأمر، أو نهى عنه وحظر، إنما هو من الله تعالى يجب اتباعه ولا يجوز اجتنابه، لقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} «النساء: ٨٠»، وقد أكد سبحانه وتعالى على الناس فى طاعة الرسول وشدد فى مواضع كثيرة من القرآن العظيم بالترغيب فى اتباعه، ووعد العاملين بأمره بعد أن قرن طاعته بطاعته فى قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} «الأحزاب: ٧١» وبتخويف المخالفين لأمره، والمتجافين عن حكمه بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} «النور: ٦٣» فمخالفة الرسول- ولا ريب- مخالفة صريحة لأمر الكتاب الصريح.
وقد استدللتَ على أن الإسلام هو القرآن وحده بقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء} «الأنعام: ٣٨». وعلى تسليم أن المراد بالكتاب هنا هو القرآن، فإن أردت أن القرآن لم يفرط فى شىء من مسائل الشريعة بطريق النص فلا نستطيع أن نوافقك على هذا احترامًا لمكان الكتاب الكريم من الثقة والصدق، فإن القرآن لم يتناول بطريق النص من مسائل الشريعة إلا يسيرًا، وإن أردت أن الكتاب لم يفرط فى شىء من الدين على سبيل الإجمال، قلنا: نعم، فإن القرآن لم يفرط فى شىء من كليات الشريعة، وأنت خبير بأن ذكرها مجملة ليس كافيًا فى استنباط المجتهد ما يقوِّم به العبادة، ويحرر المعاملة، على أننا نقول: إن القرآن لم يفرط فى شىء من كليات الشريعة وجزئياتها، فإن ما لم ينص عليه الكتاب منها أُمر باتباع الرسول فيه، فكل مسائل الشريعة على هذا من الكتاب إما مباشرة وإما باتباع ما يسنه الرسول الأمين ولا نحسبك تخالف فى أن الرسول معصوم، وأن كل ما يجرى على لسانه أو يبدو من عمله إنما هو بالوحى السماوى، أو الإلهام الإلهى الصادق، وما كان للرسول أن يشرع شرعًا يتعبدالناس به من عند نفسه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى} «النجم: ٣-٤» فأمر الرسول لا يختلف عن أمر القرآن وكلاهما معصوم، فلا مجال ثمة للسؤال بأنه هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه الكتاب؟ فإن الكتاب والرسول لا يفرضان شيئًا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ} «آل عمران: ١٢٨». وإنما الذى يفرض هو الله الحكيم، ومظهر هذا الفرض إما أن يجرى على لسان النبى العظيم أو يتجلى فى لفظ الكتاب الكريم، وليس الأمر بطاعتهما إلا أمرًا بطاعة الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} «آل عمران: ٣١».. الآية {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} «النساء: ٨٠» فالرسول عليه السلام هو الواسطة إلينا فى نقل حكم الله العظيم قرآنًا كان أو غير قرآن، والقول- نعوذ بالله- بعدم حجية الرسول قول بالأولى بعدم حجية الكتاب، فإننا لم نأخذ الكتاب إلا منه، ولم نلقفه إلا عنه وهو أمين الله على وحيه، وبعيثه إلى خلقه وحجته على عباده. السنة إجمالًا مقطوع بها كالكتاب لا شك فى أن الكتاب مقطوع به، ولم يكن هذا القطع إلا من طريقه الذى اتصل بنا منه وهو التواتر، والسنة بالجملة جاءتنا من هذا الطريق بعينه، لأن إجماع الأمة من المبدأ إلى الآن منعقد على صحة السنة إجمالًا عن رسول الله، وأنها أصل من أصول الدين كالكتاب، وإذا كان طريق السنة هو بعينه طريق الكتاب لا جرم كان مقطوعًا بها إجمالًا كالقطع بالكتاب تفصيلًا. قلنا السنة بحسب الإجمال، أما هى الشخص فسيأتى عنها بعض التفصيل فى مراتب السنة الصحيحة.