محمد ثابت يكتب: التلاعب والمتاجرة بين الدين والسياسة
في الثمانينيات دعا الشيخ حافظ سلامة، الداعية السويسي المشهور، لمسيرة سلمية تذهب إلى مقر رئاسة الجمهورية لتطلب من الرئيس مبارك تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد أو تنقية القوانين الموجودة مما يخالف الشريعة. وبالفعل استجاب لدعوة سلامة آلاف المتعاطفين والمنتمين للتيار الإسلامي، وحضروا إلى القاهرة في مسجد النور، وكان المسجد في طور التجهيز ولم يكتمل أو يفتتح بعد.
واستجاب كذلك عدد كبير من رجال الدين الإسلامي المشهورين وقتها أمثال الشيخ يوسف البدري؛ وأتوا من كل فج عميق محاطين بأتباعهم ومريديهم.
تحول المسجد إلى مهرجان خطابي، تحدث فيه ممثلو الأزهر - المؤسسة الدينية الرسمية للدولة - والدعاة أو رجال الدين ومنهم البدري ليبين كل منهم موقفه من دعوة الشيخ حافظ. بالطبع الأزهر كان يمثل وجهة نظر الدولة بعدم السماح بمثل تلك المسيرات؛ وأن هناك قنوات قانونية للعمل على تطبيق الشريعة؛ مثل تكوين الأحزاب واللجوء إلى المحاكم أوالبرلمان، وليس الضغط بالخروج إلى الشوارع.
وعلى جانب التيار الإسلامي، وقف يوسف البدري ليبين أحقية الشباب الإسلامي في الاحتكام إلى الشارع، ولم يتحدث الرجل عن ضغوط سياسية أو شعبية؛ بل انتقل فورا إلى جانب هام وشديد الخطورة؛ وهو تصنيف المواجهة. فالبدري أعلن على الملأ أن البلاد فيها حزبان لا ثالث لهما، حزب الله (وأشار إلى الجالسين أمامه)، وحزب الشيطان وأشار إلى قوات الأمن المتجمعة خارج المسجد وممثلي الأزهر، وأعلن فتواه على صحة تصنيفه هذا، ووضع عشرين دليلا من الدين على أن الدولة ونظامها هما حزب الشيطان. كان الأمر دعوة صريحة للصدام، فحزب الله لن يكون كذلك مالم يتصد لحزب الشيطان ويقضي عليه.
ولم يمر وقت كثير حتى دخل يوسف البدري مجلس الشعب، ولم يكتف بذلك بل ذهب مع الوفد المرسل من المجلس إلى مقر الرئاسة لمقابلة حسني مبارك، كما جرت عليه العادة بعد كل انتخابات برلمانية. وفي تلك المقابلة انبرى البدري ليقول لمبارك بالحرف الواحد "امدد يدك أبايعك على الإمامة العظمى". لقد دخل البدري في حزب الشيطان، بل ويريد أن يبايع رأس الحزب على الإمامة العظمى للإسلام!!
رجل الدين هو نفسه، ورجل الدولة هو نفسه، ولكن اختلف الموقف بين عشية وضحاها. كان الدين هو الضحية، فرجل الدين يجيد التلاعب به والمتاجرة للحصول على أعلى المكاسب، وليس مهما أن يكون في أي جهة فحزب الشيطان يمكن أن يتحول إلى معسكر الإيمان وفسطاط الإسلام ومقر الخلافة بجرة قلم، وفتوى محصنة بالأدلة المبرهنة من الكتاب والسنة المطهرة.
وهكذا دائما تحولات وتقلبات رجال الدين؛ يتم صبغها وكسوتها بغلاف ديني شرعي يسمح لهم ولأتباعهم بتبرير تلك التحولات. فمع كل تقلب يتم استدعاء الدين بأدلته وبراهينه ليحلل الموقف الجديد، ويحرم القديم وينزع عنه شرعيته الدينية. فإذا اتفق رجل الدين مع السلطة تكون مرجعيته في الاتفاق "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، وإذا لم يحصل على مراده منهم وغضب عليهم يلجأ إلى مرجعية أخرى "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وبالطبع رجل الدين هو ظل الإله على الأرض وممثل الدين والأقدر على استخراج ما يريد منه. وبالطبع من يصوغ شكل الطاعة أو المعصية ويحدد ضوابطها هو رجل الدين، وليس الدين المظلوم والمفترى عليه.
لم يعط التاريخ الحديث للمسلمين نموذجا نجح فيه رجال الدين أو الدعاة أو الخطباء المفوهين، أيا كان مسماهم، في الحفاظ على وحدة المسلمين أو الدولة التي يعيشون في ظلها. وبدلا من الامتياز الذي تمتع به دين الإسلام أن لا وساطة بين العبد وخالقه، أصبحت القداسة مضفاة على بشر تتحكم بهم نوازعهم الإنسانية ومصالحهم الذاتية. لقد تحول هؤلاء إلى آلهة رومانية وأوثان يطوف حولها مريدوها ويحملون كلامهم فوق الدين نفسه، وباستغلال الدين في تلك الوثنية. لم ينجرف الدعاة إلى السياسة إلا وأفسدوا كل شيء وكان الضحية الأولى هو الدين.
لم يجرب أحد أن يسأل نفسه هل في الدولة الإسلامية دعاة يحشدون الناس خلفهم ويشكلون تكتلات وجماعات متناحرة تختلف على تصنيف البشر بين كفر وإسلام أو حق وباطل؟ وهل سيسمح لكل كائن أن يتحدث مستغلا الدين والمساجد؟ بالطبع لن تسمح لهم تلك الدولة بالتدخل في سياستها إلا عبر القنوات المحددة سلفا، وستضرب على أيديهم بقوة، وإلا ستكون فوضى تطيح بكل شيء.
وأخيرا أرى أن الحق في وقتنا هذا أن ينفصل الدين عن السياسة، ويخرج الجدال والاختلاف من دور العبادة، حتى نستطيع التخلص من ظاهرة حكم رجال الدين.
أريحوا الدين من الأهواء واتركوه لينقي نفسه ممن يستغلوه لمصالحهم الذاتية.
*باحث متخصص في العلوم السياسية