الهجرة والنية الخالصة
الهجرة النبوية لم تكن هجرة دنيوية هدفها تحصيل ملك وتجميع مال، لذلك كتب الله لها النجاح وباركها وبارك فيها وفى كل من سلك طريقها، لأن النية فيها خالصة لله ومن أجل دين الله، وصدق الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم-حيث قال:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ولم تكن الهجرة النبوية فرارا من أذى-كما يشيع على ألسنة بعض الناس-وإنما هى أمر من الله-سبحانه وتعالى-لرسوله-صلى الله عليه وسلم-وذلك لعلمه-عز وجل -بما يمكر به الكافرون وأن دين الله الحنيف- أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضه على أهل مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى دين الله، فتحققت بذلك الهزيمة وتوطن الثبوت على الحق برغم العناد واللجاجة والأذى والفتن، وقد صدق إيمان بلال وعمار وعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهم رضى الله تعالى عنهم.
وكشفت لنا الهجرة النبوية عن حقيقة من أهم الحقائق فى العقيدة وهى معية الله عز وجل، وحقيقة أن يكون الله معنا تتجلى أشد من تجلى الشمس فى ضحاها اذا أخلص المسلم دينه لله وتوفرت فى صدره معانى الثقة بالله-عز وجل -وإذا تجلت تلك الحقيقة فلا خوف ولا حزن ولا فزع ولا شىء يقهرنا ولا غالب لنا، لأنا معنا الله القادر على كل شىء ومعطيات تلك الحقيقة الإيمانية، ومنها: أن من كان الله معه فلايحزن ولن يحزن مادام حريصا على أن يعيش فى نور تلك المعية الربانية فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأبوبكر الغار أرسل الله زوجا من حمام حتى باضا فى أسفل الثقب والعنكبوت حتى تنسج بيتا، فلما جاء سراقة بن مالك فى طلبهما فرأى البيض وبيت العنكبوت قال: لو دخله أحد لانكسر البيض وتفسخ بيت العنكبوت فانصرف، وقال رسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اعم أبصارهم فعميت أبصارهم عن دخوله وجعلوا يضربون يمينا وشملا حول الغار والملائكة فى الغار يضربون الوجوه عنهم.
إن معية الله عز وجل من معانيها امتداد العطاء بعد نفاد الأسباب نرى فى الغار والبيض والعنكبوت، فلولا معية الله لدخل بعض الكفار الغار ولو عبثا أو اطمئنانا لقلوبهم اللاهثة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو دخله بعضهم لأعمى الله أبصارهم كما أعمى بصائرهم لما استحبوا الكفر على الإيمان، وما أشد حاجتنا إلى نور المعية الذى يبعث الأمل فى النفوس.
ومن معالم الهجرة النبوية اختيار الصديق واختيار الصاحب، فأبو بكر الصديق رضى الله عنه صاحب رسول الله صلى الله على الله عليه وسلم ومن صدقه فى خبر السماء وصدقه فى حادثة الإسراء والمعراج، وقد أحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختياره فى رحلته وصحبته، ولعل الله أطلعه على ثبات أبى بكر على الدين ظاهرا وباطنا، ولو لم يطلع على باطنه لخاف أن يدل عليه أعداؤه، نرى الصديق فى الغار يدخله قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم -ليختبره ونسمعه يقول له -صلى الله عليه وسلم-:"إذا مت أنا فأنا رجل وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأنا ولم تهدأ نفسه إلا فى ظلال قوله صلى الله عليه وسلم له:ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ونحن فى حاجة إلى التروى فى اختيار الصاحب والصديق، وإذاعة أسرارنا على كل من ظننا به الوفاء بعد مقاسمة لقيمات وشربة ماء.