التعزير.. مرونة التشريع وغلو الجماعات الإرهابية
من العقوبات التي قررها الشرع، وجعل للحاكم أو القاضي، حق تقديرها، عقوبة التعزير، وهي تختلف عن عقوبة الحد التي لا دخل لأحد فيها، فمن المعروف أن الحدود المقررة في الشريعة الإسلامية، سبعة وهي: (حد السرقة، والزنا، والقذف، وشرب المسكر، والبغي، والردة، والحرابة)، فالعقوبة المقررة في تلك الجرائم هي حقٌ لله تبارك وتعالى، استوجبتها المصلحة العامة، لا تقبل الإسقاط لا من الفرد المجنى عليه، ولا من الجماعة.
ولما كانت هناك جرائم أخرى غير التي حدد الشرح حكمها، فقد أتاحت الشريعة أيضا من المرونة للقاضي أو الحاكم ما يساعده على تحقيق الردع، في تحديد العقوبات التي لم ترد فيها حدود في الكتاب والسنة، وهو ما يسمى شرعا "التعزير"، فما هو التعزيز؟ وما ضوابطه؟، وهل يبلغ عقوبة الحد؟.. السطور التالية تلقي الضوء علي هذه المسألة الشرعية.
التعريف واختلاف الفقهاء
جاء في " الموسوعة الفقهية " (12/263) :
" الأصل : أنه لا يبلغ بالتعزير القتل ، وذلك لقول الله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) الأنعام/151 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) متفق عليه.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيرا في جرائم معينة بشروط مخصوصة ، من ذلك:
قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس على المسلمين :
وذهب إلى جواز تعزيره بالقتل مالك، وبعض أصحاب أحمد، ومنعه أبو حنيفة، والشافعي، وأبو يعلى من الحنابلة، وتوقف فيه أحمد".
وقد اختلف الفقهاء بالفعل في تحديد مفهوم التعزير قال ابن همام عن تعريف الأحناف للتعزير في كتابه "شرح فتح القدير" هو: "تأديب دون الحد"، وعند المالكية فقد نقل برهان الدين أبو عبد الله محمد بن فرحون في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الحكام أنه: " تأديب استصلاح، وزجر على ذنوب لم يشرع فيها حدود ولا كفارات".
أما الشافعية فقد ذكر شمس الدين محمد بن خطيب الشربيني في كتاب "مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج"، أن التعزير لديهم هو: " التأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة"، أما الحنابلة فقد ذكر موفق الدين بن قدامة المقدسي في كتابه "المغنى" أنه: " عقوبة مشروعة على جناية لا حد فيها".
ومن هذه التعريفات يتبين أن التعزير أمر شرعه الإسلام في العقوبات التي لم يرد فيها حد، واختلف العلماء في كيفية تطبيقه وحده، فمنهم من قال إنه لا يتجاوز العقوبة المنصوص عليها في الحد، ومنهم من قال بالتوسع في ذلك ولكل فريق أدلته، كما لم يرد إنكار على من توسع فيه وزاد على عقوبة الحد.
ولم يختلف أحد على إجماع الأمة من السلف والخلف على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وقد أخذ به الصحابة وطبقوه في بعض الوقائع ولم ينكر بعضهم على بعض فكان إجماعاً وهو ما نقله فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في كتابه "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق".
الغاية من التعزير
يحقق التعزير المرونة التشريعية في الإسلام لأنه يتيح للقاضي أو الحاكم الحق في توقيع الجزاء المناسب لما لم يرد فيه نص من العقوبات المقررة في ابواب الحدود والكفارات، مما لا يمكن حصره نظرا لتجدده وتشعبه بتجدد الزمان والمكان، وقد جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة أنه:
"لما كانت تلك الجرائم والمخالفات لا يمكن حصرها لكثرتها وتفاوتها في العظم والخفة، وتجددها بتجدد الزمن والمكان والأمم كان من حكم الشارع أن وكَّل تقدير عقوبتها إلى ولاة الأمر حسبما يرونه كافياً للردع والزجر ومحققاً للمصلحة العامة، مع مراعاة الحالات والأوقات ليكون بذلك أشد في الردع والزجر عن ارتكاب الجرائم فيمتنع الفساد، ويصلح الكون، وتعمر الأرض، ويسود الهدوء السكون أرجاء الدنيا.
وبهذا يتبين مدى صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان وشمولها لجميع جوانب الحياة، وكذلك شمول عقوباتها لجميع الجرائم التي توجد على وجه الأرض، فإنه ليس لقائل أن يقول أن الشريعة لم تحدد سوى عقوبات بعض الجرائم، أما الباقي فقد تركته هملاً. فإن إسناد عقوباتها إلى ولي الأمر يجعلها شاملة لكل جريمة تحدث خصوصاً إذا علمنا أن أغلب العقوبات التعزيرية لها ما تدخل تحته من القواعد الكلية في الشريعة الإسلامية".
(انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، 5/403)
شبهات الجماعات الإرهابية حول التعزير
عندما أصدرت المملكة العربية السعودية توصيات بتنفيذ القتل تعزيرا على بعض شيوخ السرورية ومنهم سلمان العودة بدأ دعاة الإخوان الذين يحملون شعار "الإسلام هو الحل" وتطبيق الشريعة، في إثارة الشبهات حول مشروعية التعزير، وأنكروا أن يكون من حق القاضي أن يزيد على العقوبات المقررة في الحد، حتى يفلت أتباعهم من العقوبات المقررة عليهم، ونقل القيادي الإخواني الهارب محمد الصغير مقطعا مبتورا من كتاب الأحكام السلطانية للمواردي قال فيه: "الحدود هي العقوبات المقدرة شرعا: كحد الزنى، وحد السرقة، ونحوهما أما التعزير: فهو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود." الأحكام السلطانية " للماوردي (ص/236).
وبالرجوع إلى الكتاب نفسه لا يمكن أن ترى فيه ما يفهم منه إنكار الماوردي على القتل بالتعزير، قال الماوردي في الجزء الأول صفحة 345:
" والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه أنه تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه..."
ثم نقل الماوردي كلام الأئمة الأربعة في تعريف التعزير وكيفية تنفيذه، إذا كان ما ارتكب من الجرم أقل مما يوجب الحد، أو فيما لم يرد فيه حد ولا كفارة، ولم يبد رأيا خاصا به في ذلك.
داعش والتعزير بالقتل
استغل تنظيم داعش الإرهابي أيضا مرونة التشريع الإسلامي في إيقاع العقوبات المغلطة على معارضيه أو المنشقين عنه، باعتباره دولة قائمة بالفعل وليس فئة من الخوارج التي لا يجوز لها تطبيق الحدود او إقامة المحاكم ومن الذين أعدمهم التنظيم الداعية الكويتي حسين رضا لاي، والذي تم تنفيذ الحكم فيه بتهمة الغلو والتطرف، نتيجة إصداره عددا من الفتاوى التي تدعو إلى وجوب قتال التنظيم.