«حسن أبو باشا» يبوح بأسراره في «مذكرات الأمن والسياسة» (1)
تحمل جعبة اللواء "حسن أبو باشا" الكثير من الأسرار لقربه الشديد من مناطق صنع القرار في مصر في فترة من أكثر فترات البلاد حساسية وزخما في الأحداث.
تخرج الرجل في كلية الشرطة عام 1945م، وتدرج فى مناصب جهاز أمن الدولة حتى عين نائبًا للمدير فى مايو سنة 1971م، ثم مديرًا للجهاز عام 1975م، ثم وزيرًا للداخلية سنة 1982م، حتى عام 1984م، ثم وزيرا للحكم المحلى حتى عام 1986م.
وكل هذه المعطيات تجعل "مذكرات فى الأمن والسياسة" العنوان الذى اختاره أبو باشا لمذكراته شيئًا يستحق القراءة والوقوف أمامها لكل من أراد أن يعرف حقائق الماضى ويقرأ المستقبل.
ورغم أنه انتهى من هذه المذكرات منذ زمن بعيد وتحديدًا عام 1991م، إلا أن كلمات الرجل مازال لها وقع لليوم وسيظل لها وقع فى المستقبل؛ لأنه لم يجعل مذكراته تدور حول شخصه، وإنما جعلها تدور حول أحداث مجردة مرتبطة بأسباب وستظل تتكررر ما كُررت ووجدت هذه الأسباب، وهو يفصح عن ذلك بمنتهى الوضوح فيقول: إنني أرفض أن أكتب مذكرات يكون محورها شخصًا بذاته.
ويقول أيضًا:" أثبتت حقائق التاريخ أن الأحداث المهمة فى تاريخ الشعوب لا تأتى من فراغ، وإنما يسبقها دائمًا مقدمات يطول مداها أو يقصر، ويخطئ من يظن أن مثل تلك الأحداث تقع بصورة عارضة بعيدة عن تراكمات سابقة، كما أنها يمكن أن تمثل مقدمات لتطورات مستقبلية، يتوقف مداها هى الأخرى على مقدرة استيعاب مغزى ما سبقها من أحداث ومعالجة أسبابها".
يتخذ اللواء أبو باشا من أحداث يناير1977م، ومؤامرة أكتوبر 1981م، منطلقًا ليحذر به من فتح باب المجهول بتكرار مثل هذه الأحداث، ومن ثم تواجه البلاد مصيرًا ليس من اليسير على محلل أن يتنبأ بنتائجه أو تداعيات، يتكلم الرجل وكأنه عايش أحداث يناير وما أعقبها في الوطن العربي من ثورات أطلق الربيع العربي الذي أخذ البلاد والأوطان في خريف لم نخرج منه بعد، فيصف الطريق الآمن للتغيير بعد القضاء على ظاهرة الإرهاب المعوق فيقول: آن الآوان ليرسخ في وجداننا جميعا أن الاستقرار الدستورى أصبح مسألة حياة أموت، وأنه الكفيل بتعميق الممارسة الديمقراطية يوما بعد يوم حتى نتجه بكل قوانا لمعالجة أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية.
موقف الماركسيين من ثورة يوليو
يبدأ اللواء "أبو باشا" مذكراته من أحداث 1977م، وهى الأحداث التى اقتربت من الثورة وقال محمد حسنين هيكل إنها أحدثت شرخًا فى نظام حكم الرئيس السادات يشبه ذلك الشرخ الذى حدث لنظام عبدالناصر بعد هزيمة 67.
يمهد اللواء "أبو باشا" لهذه الأحداث بالحديث عن التيار الماركسي باعتباره البطل الأول لها، فيبدأ من القديم من علاقته بثورة يوليو 1952م فيقول: كان التيار الماركسي يقف موقفًا معاديًا من ثورة يوليو فقد كانوا يتهمون قيادات الثورة بأنهم قاموا بها بناء على تنسيق كامل مع الأمريكان ولخدمة مصالحهم فى المنطقة.
ظل الماركسيون يهاجمون توجهات الثورة طوال مرحلة الخمسينيات، مما حدا بالرئيس "عبد الناصر" إلى اعتقال عدد منهم، وكانت هذه الاعتقالات مسار خلاف بين "عبد الناصر" و"خروشوف" رئيس الاتحاد السوفيتى.
الماركسيون يناورون
حدث تحول حاد بعد ذلك فى موقف التيار الماركسي من ثورة يوليو بعد أن بدأت معالم التحول الاجتماعى فى برنامج الثورة تتأكد، وبعد أن قطعت الثورة شوطا بارزا فى سياستها التحررية على المستوى العالمي، وإذا بالتيار الماركسي يتخذ قرارًا غير مسبوق في مرحلة الستينات بحل جميع تنظيماته السرية، ويصدر بيانا يعلن فيه أنه اتخذ هذه الخطوة إيمانًا من جميع فصائله بالبعد التحررى، والتقدمى للثورة، وأن منهجها يؤكد أنها تحقق تحولات اجتماعية عميقة، وأن جميع هذه المنطلقات تدفع الفصائل الماركسية بأكملها إلى حل منظماتها، والوقوف جنبًا إلى جنب مع الثورة ومساندتها فى جميع جوانب كفاحها.
أدت هذه الخطوة من جانب الماركسيين إلى التعاون والتحالف بين الثورة والتيار الماركسى جعل الكثير من عناصر هذا التيار يصلون إلى مواقع متعددة على المستويين القيادى، والقاعدى فى تشكيلات الاتحاد الاشتراكى بنتنظيميه الطليعى، وكذلك الوصول إلى سدة القيادة فى المؤسسات الصحفية والإعلامية.
يسأل اللواء "أبوباشا" سؤلًا له مغراه فيقول: فهل كانت هذه الخطوة من جانب التيار الماركسى موقفًا مبدئيًا أم مجرد تكتيك مرحلى يمليه التقارب الحادث بين مصر والاتحاد السوفيتى؟
يدع "أبوباشا" الأحداث تجيب فيقول: فى عام 1968م وقعت مظاهرات الطلبة وكانت المفاجآت التى لفتت الأنظار أن كثيرًا من العناصر الماركسية كانت لها دور وثيق الصلة بهذه المظاهرات، وأنهم كانوا يمثلون القيادة الحقيقين لهذه المظاهرات، وكان غالبيتهم منخرطين فى منظمة الشباب، والتنظيم الطليعى السرى للاتحاد الاشتراكى، وكانوا يهدفون بهذه المظاهرات لـ"كسر حاجز" الخوف بين جموع الطلاب من مثل هذه المظاهرات مما حدا بالسلطة إلى إدراك خطورة هاتين المنظمتين، فأحدث فيها تغيرات أضعفت من فاعليتهم حتى جاء الرئيس "السادات" وأحكم سيطرته على "الاتحاد الاشتراكى" فيما عرف بتصفية مراكز القوى، وانهار التنظيم الطليعى، وأصبح فى خبر كان.
تجددت المظاهرات مرة اخرى بعد رحيل الرئيس "عبد الناصر" وتحديدًا فى عامى 1971م، و1972م، تحت ستار الدعوة لاستئناف الحرب ضد اسرائيل، وكانت غالبية هذه المظاهرات بقيادة العناصر الماركسية ومعهم بعض العناصر الناصرية.
المتظاهرون يحتلون ميدان التحرير
كانت أهم هذه المظاهرات ما حدث عام 1972م حينما توجهت إحدى هذه المظاهرات إلى ميدان التحرير واعتصم مئات الطلاب فى الميدان، وكأنهم احتلوا الميدان وأصبح خارجًا عن سيطرة الأجهزة التنفذية المسئولة كان أغلب هؤلاء الطلاب من العناصر الماركسية.
أهيمة ميدان التحرير في المظاهرات
كان لاختيار لميدان التحرير مغزى خاص إذ استمرارهم لفترة طويلة فى أكبر الميدان وسط العاصمة سيظهر الأمر، وكأنهم نجحوا فى تحدى الدولة، وسيكون الأمر موضع اهتمام من جميع وكالات الأنباء العالمية بالاضافة إلى أن استمرار الاعتصام بهذه الطريقة يمكن أن يمثل بؤرة ينعكس صداها فى مناطق اخرى سواء بالقاهرة، أو خارجها يسعى البعض إلى محاولة تقليدها.
لقد كان يهدف الماركسيون من وراء احتلال هذا الميدان إلى تحويله لأيقونة للثورة تمامًا كما فعل الماركسيون مع "الميدان الأحمر" الذى احتلوه فى الاتحاد السوفيتى أثناء الثورة الروسية.
نائب رئيس مباحث أمن الدولة ينزل الميدان
"بعد حوار بشأن الموقف مع القيادات المعنية اتفق على ضرورة إجراء تقييم للموقف عن الميدان بصورة نهائية، واتفقنا على أن اتوجه وأنا اشغل منصب نائب مدير مباحث أمن الدولة إلى الميدان بشكل عادى، وغير لافت للنظر لاستطلاع الموقف قبل إقرار الإجراء النهائي المناسب، رأيت فى الميدان حلقات النقاشات التثويرية، وسيطرة المحتجين التام على منافذ ومداخل الميدان، عدت بعد تقييم الموقع، وكان القرار النهائي بضرورة فض هذا الاعتصام وصدرت التعليمات للقوات باقتحام الميدان ليلًا وإخلائه تمامًا.
أحداث يناير 1977م وكأن الأيام لم تمر
يرى اللواء أبوباشا أن أحداث يناير 1977م هى أحد أهم المنعطفات فى مرحلة حكم الرئيس "السادات"، وذات دلالة مهمة يجب التوقف عندها لماذا؟
لأن هذه المرة الأولى منذ ثورة 1952م التى يخرج فيها الجماهير بهذا الحجم متصرفة بهذا العنف على امتداد تسع محافظات كما أنها أيضًا المرة الأولى التى تخرج فيها القوات المسلحة من ثكناتها لتعيد النظام والأمن منذ ثورة يوليو، وذلك بعد أن عجزت قوات الأمن على فرضه.
يشهد اللواء "أبو باشا" من واقع مشاهدته للأحداث أنها كانت انتفاضة حقيقية، وليست انتفاضة حرامية كما أطلق عليها الرئيس الراحل أنور السادات، كما أنها لم تكن مجرد حدث عارض وقع فجأة وانتهى كما بدأ وأنها اقتربت كثيرًا من شكل الثورة الشعبية العارمة.
كيف تم التخطيط للثورة
يقول اللواء"أبوباشا": كشفت متابعة جهاز الأمن السياسي أن أحد التنظيمات السرية والمسمى بتنظيم حزب العمال الشيوعى، وهو تنظيم سري يعمل تحت الأرض، وخارج إطار القانون والشرعية يخطط لتفجير "انتفاضة شعبية" على مستوى الشارع وأن هذا المخطط قد حددت له ساعة الصفر لتفجير الموقف لدى إصدار أى قرارات تنفيذية بمناسبة إعداد الميزانية تمس الجوانب المعيشية للمواطنين، وكان فى تقدير هذا التخطيط أن التوقيت المرتقب للبدء سيكون فى النصف الثانى من شهر يناير استنادا إلى أن القرارات التنفيذية التى تتصل بإعداد الميزانية التى تصدر فى هذا الوقت، وضبطت وثائق مهمة لدى أحد عناصرهذا التنظيم.
أعد اللواء "أبو باشا" مذكرة شاملة بتفصيلات هذا الموضوع من حيث التخطيط لتفجير الموقف والمنطلقات التى ستحدد ساعة الصفر للتنفيذ.
اُعدت المذكرة على هيئة دراسة معمقة انتهت نتائجها، إلى أهمية إجهاض هذا المخطط فى وقت مبكر وفيما يتصل بالمسؤلية الأمنية اقترحت ضبط 67 شخصًا من القيادات المسئولة فى ذلك التنظيم السرى الضالعين فى تدبير هذا المخطط على مستوى الجمهورية، وتقديمهم للنيابة العامة، وأرسلت تلك الدراسة بهذه المقترحات إلى وزير الداخلية، وبعد أربعة أيام عادت المذكرة من مكتب الوزير دون التأشير عليها بأى رأى.
ونظرًا لما كان واضحا تماما من خطورة هذا التخطيط فى تفاعلات سلبية كثيرة تم رصدها فقد أعدت الاتصال تليفونيا بوزير الداخلية، وناقشته ثانيا فى مضمون هذه الدراسة، وأهمية اتخاذ قرار بشأن ما ورد بها من مقترحات واتفق على إعادة الدراسة ثانية إليه لدراستها ومضى يومان وأعيدت المذكرة من مكتعب وزير الداخلية مكتوب عليها" التوجيه هو عدم ضبط شيوعيين فى هذه المرحلة ويكتفى بالمتابعة" ثم فهمت بعد قليل أن الموضوع عرض على السيد "رئيس الوزراء"، وأن مرجع هذا التوجيه أنه كانت تتم فى ذلك الوقت عملية مراجعة لجدولة الديون مع الاتحاد السوفيتى آنذاك وأذكر أننى علقت فى ذلك الوقت بما معناه وما علاقة ذلك بأشخاص مصريين يدبرون للخروج على القانون وأعترف أن التبرير لم يكن مقنعًا لى.
أسلوب الصدمة وآثاره المدمرة
كانت الدولة تتفاوض مع صندوق النقد الدولى لإصلاح الخلل فى الهيكل الاقتصادى، وكان من بين الشروط التى اشترطها الصندوق على الدولة لإصلاح الخلل هى ضرورة إعادة النظر فى هيكل الأسعار، ولقد حذر جهاز الأمن الداخلى مرارًا من التفاعل السلبى على مستوى الرأى العام نتيجة رفع الأسعار وأن هناك من يتربص لتفجير ا لوضع فى الشارع المصرى.
كان الشعب ينتظر انفراج الأزمة بعد التخدير الإعلامى المتكرر بأن هناك حلًا قريبًا لهذه المشكلات والضغوط الاقتصادية، وفى يوم 18 يناير 1977م صدرت القرارات التى تعنى رفع الأسعار حتى للسلع الأساسية بنسب تتراوح ما بين 20: 30% فى الوقت الذى ينتظر فيه الناس نزول الأسعار وفى الوقت الذى يمنى فيه الإعلام بانفراج الأزمة، استغل الماركسيون القرارات ونزلوا للشارع يهتفون بشعارات تخص الأزمة فاجتمع الناس حولهم وكانت النساء تزغرد من الشبابيك والمنافذ المختلفة نجحت القرارات فى استفزاز الناس ونجح الماركسيون فى استغلال الحدث، ونزلت أعداد غير متوقعة للشوارع وبدأت حالات الاعتداء والتخريب المتعمد على المحلات والسيارات بغرض إحداث حالة فوضى كبيرة كانت هذه العناصر تدركها جيدًا، تدافعت الجماهير بشكل هستيرى فى تسع محافظات مصرية من الوجه القبلى والوجه البحرى لمدة يومين متتاليين انهارت فيها قوات الأمن التى لم تكن مستعدة أبدًا لهذا المشهد إذ لم تخطرها الحكومة قبل هذه القرارات لتستعد حتى وصل الأمر بمدير أمن القاهرة إلى الإتصال بوزير الداخلية مباشرة ليقول له إن القاهرة تحترق وهذا بمثابة الإنذار الأخير فتقرر نزول القوات المسلحة لضبط الأمن فى الشوارع بعد أن وصل عدد القتلى إلى 64 قيلًا غير الخسائر المادية التى قدرت بعشرات الملايين من جراء الحرق والنهب والسرقة والإعتداء، ثم تراجعت الحكومة عن القرارات كلها ثم جرى تعديل وزارى كان وزير الداخلية فيه كبش الفداء برغم أنه لم يقصر فى هذه الأحداث ورفع ما أعدنناه من تقارير لمجلس الوزراء الذى لم يأخذ بما اقترحناه ولكنها السياسة التى لا تعرف صدقًا.