عمائم مستنيرة على «باب الله».. الخطاب الديني بين شقي رحى
يقول د أحمد سالم أستاذ الفلسفة في جامعة طنطا في بداية مناقشته لكتاب د .عبد الباسط هيكل (باب الله...الخطاب الديني بين شقي الرحى)، الصادر عن دار نيوبوك بالقاهرة، عام 2017، والذي يقع في (400) صفحة، إنّ الكتاب " يعالج قضية تجديد الخطاب الديني من خلال المدخل السياسي؛ لذا فإنّ هذا الكتاب يعيد إلى الأذهان أعمال علي عبد الرازق، وخالد محمد خالد، ومحمد أحمد خلف الله، ويكتسب قيمًا كبرى في هذا التوقيت من تاريخ مصر المعاصر".
يقول هيكل في مستهل حديثة عن الكتاب " عُرف في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية أن كثرة استعمال مفهوم ما ليُفيد بالضرورة وضوح معناه أو الاتفاق حول مجالات استعماله، وهذا ما ينطبق على المفاهيم المضمَّنة في مشروع الدولة الإسلامية فرغم ما شهدته من تضخم مفرط في خطاب الجماعات والمؤسسات الدينية إلا أنها ما زالت تفتقد التحديد والتمايز؛ لتداخل النسبي الزمني الإنساني من جانب والثابت الإلهي المطلق من جانب آخر".
فما زال الخطاب الإسلامي المُعرِّف بعلاقة الدولة بالدين في معظم الدراسة محاولة لإزالة التباس الخطاب الديني حول مشروع الدولة الإسلامية متخذًا من إثارة الأسئلة وتقليب الاحتمالات أداة للتفكير ووسيلة للبحث، في محاولة للإجابة عن سؤال: هل "الخلافة الإسلامية" نموذج شرعي ديني ثابت توقيفي أنتجه الوحي المقدس يجب استعادته، أم نموذج تاريخي قابل للتطور والتجاوز أنتجه الفعل الإنساني المتأثر بقيمه وبيئته الزمنية والمكانية؟؟
أسئلة تفكيك الخطاب المتشدد
ما يطرحه د عبد الباسط هيكل في كتابه حول تفكيك خطاب جماعة الإخوان المسلمين من الداخل يشي بأن هيكل عاش مرحلة ما في حياته داخل جماعة الإخوان المسلمين أو ربما تداخل معها كمعظم الاجيال الشبابية في مرحلة الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
طرح فكرة مناقشة أفكار العنف والتشدد من داخلها بات أمرا هاما ولا يقدر عليه إلا من عرف هذه الجماعات عن قرب، ودرس ما يستند إليها منظرو الدولة الإسلامية في مشروعهم الفكري، من طرح مفهوم الخلافة والملك والدولة والبيعة والإمارة مما عظم من مفهوم الخلافة في الوجدان الإسلامي وتحول إلى حُلم، وتحول إلي حالة مزمنة تدفع إلي الانفصال المجتمعي والعنف والإرهاب وأصبحت أصلا يعود المسلمون للطواف حوله مرارا لا يملكون تجاوزه علي الإطلاق ؟
لذلك فإن كتاب باب الله طرح عدة تساؤلات منهجية، وفي أحيان كثيرة تكون التساؤلات أهم من الإجابات وهو ما عمل في البداية "هيكل" في طرحه في مقدمة كتابة، هل عرف تاريخ المسلمين مثالية؟ وهل على المسلمين أن يعيشوا بين حنين لمثالية مضت؟ ووعد بخلافة آتية آخر الزمان؟ أيُكلف الله الإنسان بإقامة مجتمع الملائكة في الأرض أم أن المجتمع الإنساني في سعي مستمر إلى العدل والمساواة والحرية دون أن يصل إلى المثالية؟ كيف يمكن النقد والمراجعة لسلطة تنطلق من عبارة "الله يحكم"؟ كيف أعترض على تشريع من الحاكم وهو وفق مبدأ الحاكمية مجتهد يكشف مراد الله للأمة بيانًا وشرحًا؟ اعتبر مؤلف كتاب بابا الله ان لمجتهد في العلوم الشرعية سلطة دينية ووصاية بوصفه المختص (المفتي )بالتوقيع نيابة عن الله على حدّ تعبير ابن القيم؟ هل يستقيم تركيب مثل "الدولة الإسلامية هي ثيوقراطية (دينية) ديمقراطية”؟ كيف نقاوم ظاهرة التكفير إذا كانت محاولة التفكير والاجتهاد الحرّ متهمة بتعارضها مع مبدأ الحاكمية من منظور دعاة تديين الدولة؟ كيف يكون الإبداع والعقلانية العلمية ومصادر معرفتنا بالدولة منحصرة في استنباط المجتهد لأحكامها؟ لماذا لم تنجح الجماعات الدينية عبر تاريخها في تجاوز مرحلة تفكيك الدولة إلى تقديم نموذج للدولة؟ لماذا لم ينجح العرب خلال القرن الأخير في إحداث تحوّل حضاري؟ حتى متى تعيش الدول العربية حالة القبائل العِرقية أو الجماعات الدينية بقشرة رقيقة ضعيفة اسمها الدولة؟؟ حتى متى يظل استبداد السلطة حزام الأمان الممسك بمجتمعاتنا من التفكك فإذا سقطت تفككت الدول؟
بدأ الكتاب بتمهيد عرّف به الدولة الإسلامية، ومتى ظهرت، وكيف اكتسبت معنى دار الإسلام بمفهومها الفقهي، وكيف تحوّلت إلى عنوان لمشروع استعادة الخلافة الإسلامية، وتديين الدولة المعاصرة، ثم عادت إلى جذور تديين الفكر الإنساني، الاجتهاد البشري التي ظهرت في القرن الأول الهجري، فمن رحم النزاع التاريخي في معسكر جيش علي - رضي الله عنه - وُلد السؤال حول علاقة السلطة بالقرآن وطريقة تطبيق القرآن الكريم في الدولة، وما تبع ذلك من تكفير المخالف، ووجوب التبرؤ منه بل ومقاتلته ابتغاء وجه الله، ولم يكن للطرف المقابل للجماعات الخارجة على السلطة في كل عصر أن تسكت عن أفكارهم، فلابد من الردِّ عليها وإزاحتها، فلما كانت أهم أفكارهم تكفير الحاكم بالظلم ووجوب الخروج عليه، ركّز الطرف المقابل للخارجين عن السلطة على أن الحاكم لا يُعزل بفسقه، وخطورة فتنة الانقسام، وحرمة الخروج عليه مؤصلا لرؤيته بأدلة شرعية هو الآخر، فتأثر الخطاب الرسمي - دون أن يشعر- في صياغة أفكاره بتلك المساجلة.
من ناحية أخرىطرح هيكل قضية سطوة الصراع السني الشيعي في تعميق تديين الفكر السني للدولة، فبعد أن كان موقف مدرسة الحديث يدعو للتوقف عن الخوض في مسائل الخلافة (الإمامة) ويراها بابًا للتنازع والانقسام أخذوا يُنظِّرون لدولة الخلافة السنية، ويمنحونها وخليفتها شرعية دينية حتى تقوى على الصمود أمام دينية الدولة الشيعية، وكان التحول الجوهري في فكر الخلافة الإسلامية السنية من تاريخي إنساني إلى ديني منزّل عندما توجّه فقهاء سُنة إلى التاريخ؛ ليستمدوا اجتهادهم من الواقع معتمدين على مبدأ الإجماع.
وبعد أكثر من قرنين من وضع الإمام الشافعي لمبدأ الإجماع كأصل تشريعي حاول فقهاء السنة تطبيقه على أحكام الدولة كمرجعية دينية في مقابل مرجعية الوحي في الإمامة الشيعية، لذلك تناولت الدراسة التأصيل السني لطريقة اختيار الحاكم كنموذج لتديين الفكر السياسي.
المسكوت عن "الدولة الإسلامية"
وتناول الكتاب ايضًا مظاهر مفهوم الدولة في مشروع استعادة الخلافة الإسلامية، ومنها: وصاية الفقيه أكثر الشخصيات نفوذا، فهو الحاكم أو الوصي على قرارات الحاكم إذا اقتضت الضرورة أن يكون من غير الفقهاء، وهم أهل الحل والعقد، وأهل الاجتهاد في شؤون الدولة، ولأن دولة الخلافة الإسلامية هي مجموعة من الأحكام التي استنبطها الفقيه من النصوص الشرعية، فهو دون غيره من يملك مراجعتها والتجديد فيها؛ ومن يملك حق الاستدعاء لصورة من تجربة الدولة الحديثة بجذورها الغربية ليدخلها في الدولة الإسلامية بعد أن يُعيد تكييفها، واسْتُلبت دلالة الاجتهاد اللغوي الرحبة في الثقافة الإسلامية من كونه دعوة لإعمال العقل وحرية الفكر في المسكوت عنه، وبنيت الأسوار حول تصورات الدولة، فلا يستطيع أحد غير رجال الدين الولوج إليها، وعزز من وصاية الفقيه فكرة أن الله قدّم أدق التفاصيل، وأجاب عن كل الأسئلة في دنيا الناس، وكأن الله المكلف في الكون وليس الإنسان.
ونقد هيكل في كتابة مفاهيم مثل تديين الدولة جعل الخلافة والإمامة منصبًا دينيًا، فمراد الله لا يقطع به إلا نبي؛ فلا يملك اجتهاد أن يزعم أنه مراد الله، فالدولة الإسلامية تتدخل ليس لحراسة الدين بل لحراسة صورة من صور التدين التي اختارتها، فتقوى وتصبح المعتمدة عند العامة، ويضعف ويتراجع كل فهم ورأي مخالف لها، وهذا يفسر سعي كثير من الجماعات الدينية إلى السلطة، ليس لحماية الدين حقيقة بل لحماية تصورها وتدينها كما حدث مرارا عبر التاريخ، فالمجتمع ليس في حاجة إلى حماية السلطة وحراستها لصورة تدين بعينه بل حماية تعددية الاجتهاد، وتنوع أشكال التدين دون انحياز إلى شكل بعينه.
وكذلك من تديين الدولة ومركزية الخليفة الذي ينفرد بمهام الدولة كاملة يُفوِّض فيها من يشاء، على غرار مركزية الإمام في الفكر الشيعي الذي أوجبوا له طاعة منحته سطوة، وهذا يُفسِّر تركيز شريحة كبيرة من المجتمع على أن التغيير والإصلاح ليس مرتهنًا بالشعوب قدر كونه مرتبطًا بقوة الحاكم؛ فالشائع في ثقافتنا ليس بناء وعي المجتمع أداة لبناء حضارة وإحداث تغييرات حقيقية مستقرة في طريقة التفكير والعمل، بل التغيير مرتهن بقوة السلطان وسطوته التي تحمل الناس إرغاما. هذا ما وقعت فيه الجماعات المتشددة في تعملها مع مفهوم الدولة ومركزية الخلافة.
وايضًامن التديين مبدأ الحاكمية والذي لحظ المؤلف انه فصل بين دولة الخلافة الإسلامية التي ترى الإنسان مكلفًا والله مصدر السلطات، والدولة المدنية التي ترى الإنسان مفوَّضًا والأمة مصدر السلطات، فالدولة الإسلامية الحاكم الحقيقي فيها هو الله والخليفة والإمام بوصفه فقيهًا مجتهدًا يكشف مراد الله من أحكامه، بينما الإنسان هو من يحكم في الدولة المدنية، وجميع أفرادها صفتهم مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات، في المقابل الدولة الإسلامية جميع أفرادها مكلفون من الله راعي ورعية، فليس لهم حقوق؛ لأنهم مكلفون من خالقهم بل عليهم واجبات.
بشرية الرسالة ومدنية السلطة
وقد ناقشت الدراسة أدلة الحاكمية، وقارنت علاقة الإنسان بالسلطة في نموذج الدولة المدنية ومشروع دولة الخلافة الإسلامية منتهية إلى أن نموذج الدولة المدنية أقرب إلى إسلام الوحي من النماذج التي تطرحها جماعات التشدد والتطرف الديني.
وعرج الكتاب على فكرة "أصولية الخلافة الإسلامية" أبرز المقولات التأسيسيّة في خطاب الجماعات التي يتوافق معها جانب من خطاب المؤسسات الدينية الرسمية، فيرون الخلافة نظامًا إسلاميًا ربانيا ثابتا للدولة، ثم يختلفون بين العدول عنها عدول المضطر المعذور وبين العمل على استعادتها بحيلة السياسة أو بصراحة السلاح والعنف، ولمناقشة القضية عادت الدراسة إلى مادة الاستخلاف في القرآن الكريم بوصفها نسقا لغويًا واحدًا ينبغي أن يفهم وفق لغة العرب ووعيهم بكلمة الاستخلاف، وأخَّرْتُ دراسة أقوال المفسرين لرفع الوساطة التراثية بيني وبين القرآن الكريم، ولم أهدر جهود القدامى؛ لأن التجديد يبدأ من قتل القديم دراسة وبحثا.
وحتى تكتمل المعالجة الفكرية توقفت الدراسة عند الطبيعة المزدوجة لشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين البشرية والرسالة، وكيف أنها مارست سلطة زمنية سياسية منفصلة عن سلطة النبوة أشرك فيها غيره وأنابهم عنه، وليس كما يصور جانب من خطاب الجماعات بأن جميع أفعال الرسول تندرج تحت سلطته الدينية، وأن بعثته كانت لإقامة دولة، مما يجعلها جزءًا من الدين، وهذا يُشرّع من منظور أبناء التيارات الدينية لصدام لا يتوقف من أجل إعادة دولة النبي والخلفاء الإسلامية التي استلبها خطاب التمدن والتحديث المعاصر المتأثر بالعدو الغربي المتآمر.
وتوقفت الدراسة عند أبرز إشكاليات تديين الدولة في الخطاب الإسلامي الذي أهدر السياقات والملابسات التاريخية للحوادث موضع الاستدلال، مكتفيا بتبرير أحداثه بالمؤامرة، فتاريخ المسلمين في جانبه السيئ صنعه العدو المتآمر، وغابت النظرة العلمية النقدية في قراءة التاريخ لصالح التناول الوعظي المتعالي بالتاريخ عن مساره البشري، واكتفي دعاة التديين بتفسير الإخفاقات التاريخية تفسيرا عقائديًا يرضيهم بأنها امتحان وتمحيص كخطوة على طريق التمكين والنصر بل ويدعون الله أن يُعجّل بها؛ لذا لا يتأثرون بالفشل ويرونه تضحيات لابد منها، فالمكروه في جانبهم ابتلاء واختبار، وفي جانب خصومهم بلاء وعقاب من الله، ويعيشون مرحلة طفولة فكرية في تفسير الحوادث ويكثرون من التباكي وتحكيم الانفعالات، ويرون في محاولات نقد التاريخ ومناقشة أحداثه إرجاف واستهداف؛ لذا لا يتعلمون من أخطائهم عبر التاريخ. ولم يسلم الجميع من انتقائية تاريخية في الاستدلال، فلا يهتمون بدراسة تطور وقائع التاريخ دراسة أكاديمية قدر اهتمامهم بإسقاط التاريخ على واقع الصراع السياسي المعاصر، وتُختزل وقائع التاريخ في موقف أو جملة إيجابا أو سلبا فحوادث التاريخ وشخصياته تُوظف في الصراع السياسي المعاصر لإكساب جماعة شرعية أو لإسقاطها عن أخرى.
تناول الكتاب بنية خطاب جماعة الإخوان المسلمين أكبر الجماعات الإسلامية حديثا وأكثرها انتشارًا وإحدى أهم المؤثرات في الخطاب الإسلامي المعاصر، وصاحبة مشروع أسلمة الدولة، وأهم الروافد الخفية المغذية للتطرف في عالمنا؛ فالجماعات الدينية وإن تفاوتت في درجات الإعلان والخفاء ومرحلية الوسائل وحِدَّة الخطاب إلا أنها تتفق في بنية أفكارها، وهذا ما ستحاول الدراسة كشفه من خلال تلك الكلمات المفتاحية: حتمية الصراع، كضرورة للوصول إلى التمكين، المركزية المطلقة بزعم امتلاك الفهم الحصري الصحيح للإسلام، الانعزالية، الخطاب الأحادي، التكفير الصامت، الخطاب المختلط (بريق الصفيح) الذى تختفي معه الحدود بين المطلق والنسبي، والثوري والإصلاحي، والدعوي والحزبي، والوعظي والجهادي، ثم باب الله حيث وقع خطاب جماعة الإخوان في دينية عاش المسلمون ينفونها عن الإسلام لقرون في مناقشاتهم لعلاقة الدولة بالإسلام.. فلم تغتال الجماعة مخالفيها فحسب، بل اغتالت الدين، وهدمته في نفوس العامة حين حوَّلت الجماعة التنافس السياسي إلى معركة دينية وجودية، انتصارهم يمثل انتصارا للإسلام، وخسارتهم تمثل هزيمة للإسلام.
النص المقدس ومنصات الرصاص
وتحدث الكتاب عن الخطاب الديني الرسمي الذي يُقوِّي عجزُه عن التجديد من البنية الفكرية لخطاب الجماعات، فما زال تجديد الخطاب الديني المؤسسي محصورًا في شكل بروتكولي في المحافل حيث تنطلق الكلمات البليغة الرنانة من أعلى المنصات كردِّ فعل لخطاب الجماعات، وينتهى التجديد بانتهاء الفاعلية الإنشائية أمام الكاميرات الإعلامية، دون ممارسات حقيقية لتجديد الخطاب الذي أصيب بدوغمائية نتيجة التباس مفهوم الخطاب الحامل لرسالة دينية بالنص المقدس، فانتزع الخطاب قداسة مغلوطة تشعرنا بالحرج عن إخضاعه لمنهج البحث النقدي، وأصبحنا لا نقترب من خطابنا الديني إلا لاختصار شرح أو لإيجاز مُفصَّل أو للتوفيق بين المستجدات وأقوال القدامى من علماء التراث دون أي محاولة نقدية لتفكيك وتحليل تلك الخطابات بوصفها رسائل لغوية، وفهم بشري للنص الديني.
حاول الكتاب رصد أبرز الإشكاليات التي تعوق انطلاق عمليات التجديد من قراءة انتقائية دعائية أكثر منها مناقشة للقضايا الجدلية الحساسة في المجتمع فتجديد الخطاب الديني يقتضي مراجعة دائمة وتساؤل مستمر، وإعادة بناء تصورنا حول كيفية عمل اللغة، فهي حاملة الوحي المقدس، ووسيلتنا الوحيدة في اكتشاف العلاقة بين الله والإنسان والعالم، ولن نستطيع بناء تصورات فاعلة في علاقتنا بالكون والخروج من هوة السقوط الحضاري دون إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع اللغة.
محمد عبده وتأسيس العقل وعلاقته بالدولة
وأخيرا توقف الكتاب أمام علاقة الدولة بالدين في فكر الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ومحاولته الإصلاحية التي لم تؤت ثمارها لعدة عوامل، منها ارتباط نموذج الدولة المعاصرة بالاستعمار في الوجدان والعقل المسلم، ممّا جعل التحديث متهمًا؛(لا يأتي من الغرب ما يسرّ القلب ) لأنه الفكر القادم من العدو المستعمر، بالإضافة لالتباس الفكر بالدين في الخطاب الإسلامي، فكل محاولة لنقد فكر تديين الدولة متهم بأنه نقد للإسلام، وكأن الفكر الديني هو الدين.
وهذا ما فتح النار علي الشيخ محمد عبده ،وجدلية علاقة الإسلام بالدولة؟ لذا حاول المؤلف في هذا الجانب من الكتاب تقديم رؤية الشيخ محمد عبده والدكتور محمد خلف الله كرؤية بديلة لطرح تديين الدولة، فتناولت أفكارهم حول الإسلام بين الدين والتدين، ثم حق التشريع بين الله ورجال الدين، والأمة كمصدر للسلطات، والتأسيس العقلي للمفاهيم الدينية ذات الصلة بالدولة.
الكتاب عبارة عن محاولة لإعادة الإنسان مرة أخرى؛ ليكون فاعلا في بناء دولته، المحاولة هذه المرة من عالم ازهري اقترب من قريب من هذه المفاهيم وحاول تفكيك خطاب هذه الجماعات بطريقة فردية، فليس الله المكلف من الإنسان لصياغة التصورات حول الدولة وتقديم التفاصيل ومواكبة التطورات ومواجهة المتغيرات الحاضرة واستشراف آفاق المستقبل والعمل لها.
كما أنه حاول ممارسة القراءة التحليلية النقدية البعيدة عن التعالي أو التبرير أو الدوغما السائدة في جانب كبير من الخطاب الإسلامي المعاصر ؛ ومحاولة لإظهار أوجه التعدد في أقوال القدامى، وفهمهم الظني المتأثر بثقافة عصرهم لنصوص ذات دلالة احتمالية، فأخطر ما وقع فيه الخطاب الإسلامي المعاصر تثبيت المعنى عند فهم بعينه وترويجه كأنه المعنى الوحيد المطابق لمراد الله، مما أعطى للمنتج البشري سلطة الإلهي،ويبقي موقف المؤسسة الازهرية في تبني مثل هذه الخطابات المعاصرة لتفكيك خطاب عفي عليه الزمن وكلف البلاد والعباد كثيرا من المشكلات والويلات.